واقع مُحبط للمُعايشة
خرج لنا العالِم الأمريكي إبراهام ماسلو Abraham Maslow في أربعينيات القرن الماضي بنظريته التي تجمَع أهم الدوافع والاحتياجات الإنسانية في هرمٍ تصاعديّ. وكانت واحدة من هذه الاحتياجات الإنسانية التي يُنظر إلى أهميّتِها في نظريته هي: الحاجة للانتماء Belongingness Needs، والتي تُبيّن مدى تأثير إشباع أو إهمال هذه الحاجة على حياة الإنسان، وقد قصدَ بها الانتماء إلى جماعة تٌشعرك بأنّك واحدًا من أفرادها؛ أيّ معاملتك بنمط التّواصل السّائد بينَهم. والجماعة مُفردة تُستخدم لوصف تجمّعٌ إنساني قد تشكّل لهدفٍ ما تم تحديده مُسبقًا مثل: العائلة، الأصدقاء، جماعة العمل، جماعة الدراسة، (ويستطيع الإنسان أنْ يضع بالاعتبار أيٌّ جماعة قد تعني له شيئًا). ومن المظاهر الانسانية التي قد تتوّلّد من نزعة الإنسان إلى الانتماء لجماعة يشعُر فيها بالارتياح إلى جميع أفرادِها (وبخصائصهم)؛ التميّيز. وأعني هُنا أن يشعُر واحدًا منهم بأنَّ هنالك نمطًا مُتكرّرًا من التّواصل معه غيرُ مفهوم، يختلف فيه عن نمط التواصل المُتّبع مع البقيّة. والتمييّز عندما يأتي في هذا السّياق الإنساني يُشعِّر من وقعت عليه الإساءة بأنَّ هنالك خطبٌ ما فيه، وإلّا -كما يقول الكثيرون-”لماذا أنت من بيّنِهم جميعًا”، وهذا السّياق برّمته لِمَن وجَدَ نفسَه فيه قد يصعب أن يجِد من يتواجد عاطفيًا معه، ومن يٌصادق على ألمه، ولربّما بسبب أنّ العقل الإنساني يُفضّل ألّا يُصدّق بحقيقة قُبح الواقع؛ عدم ضمان مردود ما يتّبعه من قوانينٍ مُعلنة وغير مُعلنة مع الآخر. والأشدّ ألمًا أن يقرّ بحقيقة أنَّ ما قد تعلّمه في لبنتِه الأولى من أخلاقيّات وقيّم تُنظّم التّواصل بين النّاس؛ حفظًا لحقوقهم، ولمعنويّاتهم من الألم العاطفي، لا تعني بالضّرورة أنْ تُحفظ حقوقهم من أنْ تُسلب، ولا معنويّاتهم من الألم العاطفي -لا أُحب كلمة كسِر- ومن المؤسف أنّ المُميّز ضدّه واحدًا من أفراد الجنس البشري؛ يصعُب عليه أن يٌؤمن بخلاف ما تعلّمه من والديه ومن المجتمع، أو أنْ يُحطّم أساسًا قد نشَأ عليه، أو أنْ يستبدل اعتقاده الراسخ بالقوى الخارقة -قُدرتهم على خلاصِه- لدى مُعلّميه الأوائل في حياته، باعتقادٍ أكثر واقعية؛ أكثرَ إحباطًا، وأكثرَ ألمًا. وممّا تواجهه آلامنا العاطفية التي تٌصيب فردًا منّا بعينه؛ الردود التي تأتي بطابع التّحقّير، أو التّصغير. خصوصًا تلك التي لم تٌسجَّل في عقلنا اللاواعي في تاريخنا البشري؛ كما هي الآلام العاطفية التي تنتٌج عن الكوارث الطّبيعية، وحالات الفقد، والغدر وما شابهها. ولكن السؤال النفسي الأكبر: في عصرنا الحديث، وبعد هذا الكم الهائل من العلم الذي توصّلنا إليه في معرفة النّفس البشرية وما يعتريها من شقاء، هل الألم العاطفي يُقاس بحجم الضّرر الواقع أم بالمعنى الكامِنِ وراءَه؟.