النعناع في التاريخ والثقافة

إنَّ النعناع ملازِم للإحساسِ بفمٍ منتعِش؛ وقد غدت نكهةُ النعناع، مِن معجون الأسنان إلى غسول الفم إلى مضغ العلك، شيئًا لصيقًا بنظافة الفم.


ليس هذا الاستعمال بالظاهرة الحديثة، فقديمًا قِدَم أوائل عشرينيِّات القرن السادس عشر كان الأطباء قد أوصوا بأن يُغسَل الفم بالنعناع المنقوعِ في النبيذ الأبيض وشيءٍ من الخلّ، بالإضافة إلى فرك اللثة بمسحوقِ النعناع الجاف بوصفه «مستحضرًا طيِّبًا للأسنان والفم وتعفُّن اللثَّة».


نقفز سريعًا 400 عام إلى الأمام.


ما يزال هذا التقدير لاستخدام النعناع في حياتنا اليومية متواصلًا إلى حدِّ أنه في عام 2018 أنتجت الولايات المتحدة ما يكفي من زيت النعناع لملء حوض سباحة بحجم أولمبي(5.38 مليون رطل).

تُزرع محاصيل النعناع أصلًا في كاليفورنيا، وإيداهو، وإنديانا، وأوريغون، وواشنطن، وويسكونسن، مساهمةً بحوالي 100 مليون دولار في تجارة التصدير الأمريكية، ويأمل بحثٌ علميٌ قائم في زيادة استغلال المساحات الزراعية للنعناع في الولايات المتحدة، يعود ذلك جزئيًا وفق دراسة حديثة إلى «زيادة ضغط السوق من أجل زيوت نعناعٍ قليلة التكلفة» وعلى حين أن التقدم في المجال الزراعي قد زاد ببطء من إنتاج زيت النعناع من المحاصيل الحالية، فقد أظهر المؤلفون أن هندسة التمثيل الغذائي (metabolic engineering) هي واحدة من «أقرب البدائل قصيرة المدى واقعيَّة في تعزيز إنتاج زيت النعناع وتكوينه»


وفي حين أن القيمة السوقية للنعناع قد لا تماثل قيمة التبغ أو الكاكاو، فقد أصبحت منتجات زيت النعناع التجارية جزءًا من حياتنا اليومية، وليس ذلك مقصورًا على معجون الأسنان وحسب، ولكن أيضًا الشوكولاتة، والأدوية، والتبغ، والعطور.


من البيِّن إذن أن فتنة النعناع أمر يُجاوِز صحَّة الفم.

فمن حقول مصر القديمة إلى ما يُعرف الآن بإقليم شمال غرب المحيط الهادئ، كان للنعناع تاريخ طويل من الاستعمال لصنوفٍ واسعة من الأغراض التي تشمل النبتة بأسرها لا زيوتها وحسب. وعلى سبيل المثال فإن واحدًا من أقدم النصوص الطبِّية الباقية في العالم -بُرديِّة إيبرس المصريِّة القديمة 1550 قبل الميلاد- يُشيد بقدرة النعناع على الهضم وبأنه عِلاج مهدِّئ لانتفاخات البطن.


أمَّا في اليونان وروما القديمة فقد كانت الرائحة الحلوة للنعناع تُستعمَل في الطقوس الجنائزية وتعطير الجسم، وقد ظنَّ بليينوس الأكبر أنه إذا ما مُسِّد الصدغ بالنعناع فإن ذلك يُذهب الصداع، وكان فيما يُعلِّم أطباء اليونان، من أمثال جالين وديوسكوريدس، أن النعناع يَحول دون أن يتقيَّأ الناس دمًا، بل ذهبوا إلى التكهُّن بأنَّه لربَّما منع النساء من الحمل.

 

وفي بواكير أوروبا الحديثة كان نبات النعناع بأكمله يعتبر مفيدًا، إذ تشير أنظمة الوجبات الغذائيّة أواخر القرن السادس عشر إلى أن عصارة النعناع كانت فعَّالة ضد السموم، وأنَّ عشبة النعناع، إذا ما أُكلِت نيئة، فإنها تحثُّ على حركةِ الدم الجيِّد. وقد كان يُعتقد أن مسحوق النعناع يساعد في قتل الديدان في المعدة، وبخلطه مع الحليب فإنه من الممكن استخدامه لهذا الغرض حتى مع الرضَّع.


آمن البعض بأن للنعناع فضائل أكبر: إذ كتب الطبيب توبياس فينر في عام 1620 أن الرائحة العطرية الممتازة لكلٍ من نعناع الحديقة الأحمر والنعناع المدبَّب «تريح الأدمغة والأرواح، وتثير الحواس، خاصة الذاكرة، وتجعل القلب يضجُّ بالمَرح» حتى أنه وصف النعناع كضربٍ من العلاجات المُعينة على التركيز، ونصح الذين «يضطلعون بحياةِ نَظر ودراسة» بأن يأخذوا وقتًا معلومًا للتمتّع مِن رائحة النعناع.


كما أبرزت العُشبيَّات الحديثة المبكرة -نعني تلك النصوص التي تسرد وتصف النباتات من حيث استخداماتها الطبية- القيمة العلاجية للنعناع، فتزعم دراسة من القرن السابع عشر للمنجِّم والصيدلي الإنجليزي نيكولاس كولبيبر -موجودة في مجموعة الكتب النادرة في دومبارتون أوكس- أن نبات النعناع يمكن استخدامه لعلاج أكثر من أربعين مرضًا مختلفًا. وهناك مجلد آخر من دمبارتون أوكس، وهو تاريخ النبات العام لمؤلِّفه جون جيرارد ، يزعم أن النعناع «مُغذٍ ممتاز للمعدة».


لا تزال أنواع أوراق النعناع نفسها التي أثنَى عليها كل مِن كولبير وجيرارد شائعة اليوم في أنواع الشاي المخصص للهضم وفي الطب، مما يشير إلى أن النظر إلى حياة النباتات الماضية يمكن أن يساعدنا في تتبع أصول استخداماتها اليوم.


كان النعناع قد بدأ يصبح مجال عملٍ مزدهر في القرن الثامن عشر. إذ تشير إعلانات زيت النعناع إلى أن المستعمرات الأمريكية الأصلية كانت تستورد المنتج من بريطانيا، غالبًا للوصفات الطبية، وفي نهاية المطاف ، أدرك المزارعون في نيويورك ونيوجيرسي أنه يمكنهم زراعة النعناع بأنفسهم ، خاصَّة النعناع الفُلفلي والنعناع المُدبَّب ، واللذان يمكن زراعتهما بسهولة في ظروف رطبة.


أصبح للنعناع سوق راسخة في أمريكا الشمالية منذ القرن التاسع عشر فصاعدًا. وبرغم فيروس Verticillium dahlia الذي يوجَد في التربة ، والذي أجبر إنتاج زيت النعناع على الانتقال من الغرب الأوسط إلى شمال غرب المحيط الهادئ في عشرينيات القرن العشرين ، فقد استمر إنتاج النعناع التجاري في الازدهار.

Join