لماذا يحب البعض أن يعارض كل شيء؟
وكيف نتعامل معهم؟
كانت أعداد البشر قليلة في العصور السحيقة، وكان التواصل الاجتماعي محدوداً بالبيئة الجغرافية التي يسكن فيها جماعة من الناس، بعد حلول الظلام وانقضاء أعمالهم البسيطة التي يباشرونها منذ طلوع الشمس.
لكن الحياة المعاصرة لم يعد فيها للعمل وقت محدد، ولم يعد يعترف التواصل الاجتماعي فيها بحدود الزمان ولا المكان.
وفي كل العصور، أياً كان نوع التواصل الاجتماعي، فإن الهدف من كل الأحاديث والحوارات هو الفائدة والمتعة.
هذه مقدمة للحديث عن صنف من الناس أسميهم حزب المعارضة. هذا الصنف يحب البعض أن يعارض كل شيء، وله رأي مختلف في كل شيء. مع هذه الصنف من الناس ربما تجد -للأسف- القليل من الفائدة بلا متعة أو أسوء من ذلك، تخرج من الحوار منهكاً نفسياً وجسدياً.
عندما تلتقي أحد المنتمين إلى حزب المعارضة، ستعرفه خلال دقائق معدودة، بمجرد أن تتجاذب معه أطراف الحديث.
فمنهم على سبيل المثال من يحاورك بطريقة هادئة ومؤدبة -رغبة منه ربما دون أن يقصد- في استمرار الحديث لا أكثر. لكنك ستلحظ معارضته المتواصلة وتصحيحه المستمر لأفكارك وعباراتك. ورغم أسلوبه الهادئ، وبعض المعلومات أو الأفكار التي قد لا تخلو من الوجاهة، تشعر أنه يلاعبك بطريقة مستفزة تقطع عليك الطريق نحو الشباك.
ومنهم صنف ثانٍ لا يملك نفس الدرجة من الهدوء، يجعلك تشعر أنك -بسبب معارضته المباشرة والحادة- في تحدٍّ أو مناظرة، لأن كل كلمة تقولها خطأ، وكل رأي تعبر عنه هناك ما هو أفضل منه، وكل فكرة تطرحها يجانبها الصواب. بعبارة قصيرة: تشعر أنك مع خصم لدود في مناظرة انتخابات رئاسية.
أما الصنف الثالث فمعارضته على شكل مزايدة، ان اشتكيت، زايد على شكواك؛ وإن استعرضت بشيء عندك، قلل من شأنه؛ وقال أن عنده -أو عند غيره- ما هو أفضل أو أجمل منه؛ وإن سردت قصة فيها حكمة أو مغزى، زايد عليها وجاء هو بما يظنه أكبر منها حكمة أو أعمق منها مغزى. هذا الصنف، ببساطة كمن يزايد في الحراج.
ما الذي يدفع هؤلاء أن يكونوا دائماً في حزب المعارضة؟
دفاعاً عن الكرامة: فكرامة البعض لا تسمح له أن يبدو صامتاً حيال موضوع ما. لذلك فهو يدلي بدلوه في كل موضوع يُطرح، وينافح عن آرائه، حتى وان كانت آراؤه شخصية لا تستند إلى معلومات صحيحة أو خلفية واقعية. الحديث والمعارضة هنا ليست إلا دفاعاً عن كرامته تقديره لذاته.
ضعف المستوى التعليمي: لأنه لم يتلق نصيباً من التعليم والشهادة، يشعر البعض بعقدة نقص. لذلك يحرص على الإختلاف مع الآخرين في محاولة منه لإخفاء هذا النقص، وكأنه يقول “أنا أفهم منك يا متعلم”، رغم أن هذا النقص قد لا يكون ملحوظاً من قبل الآخرين إطلاقاً.
دفاعاً عن الإنتماء: هذا الإنتماء قد يكون دينياً أو رياضياً أو سياسياً أو قبلياً أو غير ذلك. ومن المؤسف أنه في ظل التعصب للإنتماءات، قد يتخلى الإنسان كل أسس المنطق والحكمة والذكاء في حواراته، ويهاجم غيره ممن لا يتفق معه، بشراسة. ومن ذلك ما يتداوله الناس عبر وسائل التواصل الاجتماعي من مقاطع لرجال دين أو سياسيين يتحدثون أمام الآلاف من أتباعهم بما لا يقبله عقل. وترى التابع والمتبوع كليهما قد تخلوا عن عقولهم وأخلاقهم دفاعاً عن انتماءاتهم.
الرغبة في التفوق: من الطبيعي أن يسعى الإنسان للتفوق على غيره، بل من حقه أن يفعل ذلك. لكنّ ما أعنيه هنا هو من يفشل في تحقيق التفوق الحقيقي في نواحي حياته مثل العلم أو المنصب أو المال. ولأنه فشل في التفوق في ميادين الحياة الفعلية، فهو يبحث عن التفوق في الجدال وتخطئة الآخرين والإنتصار عليهم من خلال نقاشاته ومناكفاته.
اضطراب الشخصية: الشخصية النرجسية -على سبيل المثال- تتسم بالغرور المتناهي. فالنرجسيون لا يمكن أن يكونوا على خطأ، ولا حق لأحد في مناقشتهم أو إبداء وجهة نظر مخالفة لهم. هؤلاء الأشخاص يستميتون في الدفاع عن وجهات نظرهم لأنهم ببساطة يرون أن غيرهم يُسأل عما يفعل وهم لا يُسألون.
الشعور بالكراهية: يختلف البعض مع غيره من الناس لأنه -هكذا- كره فلان ولم يرتح له، من أول نظرة، وبدون سبب. وكما يقول الشاعر:
وعين الرضا عن كل سخط كليلة ** ولكن عين السخط تبدي المساوئا
التمركز حول الذات: وبسبب ذلك يتحسس البعض من الآخرين فيحسبون كل صيحة عليهم، ويرون أن فلان لم يحترمهم، وفلان عاملهم بطريقة غير لائقة، وعلان قصد اهنتهم... الخ. ومن هذه المنطلقات يدخلون في عنف مبطن من خلال الإخلافات والنقاشات الحادة، بهدف الإنتقام لذواتهم وتلقين الآخرين دروساً في “الأدب واحترام الناس”.
لماذا نتضايق دائماً من المعارضين؟
لأننا لا نحب أن نشعر أننا على خطأ، وهم يشعروننا بذلك، وبأن أفكارنا غير صائبة…الخ، ومن منا يحب أن يكون كذلك؟
لأننا لا نحب أن نشعر بالدونية أو الغباء أو السخف، وهم يشعروننا بذلك سواء قصدوا ذلك أم لم يقصدوا
لأننا نشعر أنهم يكرهوننا.. لم يرتاحوا لنا.. يحرجوننا.. سواء كانت قراءتنا لسلوكهم صحيحة أم خاطئة
بسبب أسلوبهم، نراهم مغرورين، مستفزين، أو حمقى ولكنهم لا يدركون ذلك
لأننا نرى أنهم لا يبحثون عن الحقيقة، بل يجادلون لغرض الجدال فقط، ولا يتوقفون عن المصادمة
لأننا نرى أنهم لا يؤمنون باتفاق ولا وجهات نظر مختلفة ويصرون على أن يكسبوا "المعركة" دائماً
كيف نتعامل مع المعارضين؟
قد يكون السؤال الأهم هو: كيف نتعامل مع أنفسنا؟
التزم بالحقائق.. ضعها على الطاولة، ولا تجادل.. حتى وإن جادلوك فلا تنْجَرّ معهم للجدال، طالما عرفت أنهم يدركونها في داخلهم، كما قال الله تعالى في مشركي قريش -مع فارق التشبيه- "وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا"
خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ
الأعراف 199
تعاطف معهم.. فربما أنهم لا يحسنون أكثر من ذلك، أي أنهم لا يعرفون غير المعارضة، بسبب ظروف حياتهم وتربيتهم أو لعلة في أنفسهم، أي أن الأسلوب الذي تراه لا يخصك أنت وحدك، بل هي طريقتهم في النقاش مع كل الناس
أشفق عليهم.. فربما يكون هذا الأسلوب بسبب طبيعة الموضوع التي لامست منطقة حساسة في أنفسهم، مما دفعهم للمعارضة وطرح أفكار مستفزة لإخفاء مشاعرهم السلبية وإظهار القوة أو أنهم ليسوا أقل منك معرفة وشأناً
لا تتخذ موقف المدافع.. عن أفكارك أو عن نفسك، لأن الهجوم -مثلما قلنا- ليس عليك شخصياً ولا على آرائك.
اعلم أن مشاعرك الإيجابية أو السلبية تجاه نفسك أو تجاه الآخرين ستظهر على وجهك وعلى أسلوبك في الحديث، فاحتفظ بهدوئك
لا تطلب.. ولا تتوقع أن يتفق معك الآخرون دائماً، وإلا فأنت بتصرفك هذا تنتقل إلى حزب المعارضة.. فانتبه لنفسك!