خدعة إقتناص الفرص

في البداية دعنا نجري تجربة بسيطة. ضع يدك اليسرى في وعاء من الماء البارد، ويدك اليمنى في وعاء آخر من الماء الساخن، واتركهما لمدة نصف دقيقة. بعد ذلك قم بوضع كلتا يديك في وعاء من الماء الفاتر (ليس باردًا ولا ساخنًا). ما تشعر به مفاجأة! حيث أن يدك اليسرى التي كانت في الماء البارد تشعر الآن بالحرارة ويدك اليمنى التي كانت في الماء الساخن تشعر بالبرودة. هذا الإحساس يُعرف بـ تأثير التباين The Contrast Effect.


في مثال آخر أكثر إيضاحًا: تذهب للبحث عن سيارة كي تشتريها، البائع يعرض عليك سيارة من طراز جديد ذات جودة عالية لكنها باهظة الثمن. تسحرك تلك السيارة وتسرق نظرك إليها، لكنك لا تستطيع اقتنائها لأن ميزانيتك لا تسمح بذلك. ثمّ تستغرب، لماذا يعرض البائع عليك سيارة تفوق ميزانيتك! بعد ذلك يقودك البائع إلى سيارة مماثلة، جودتها عالية، معروضة للبيع، تفوق ميزانيتك قليلًا لكنها أقل ثمنًا من السيارة الأولى. الآن، وبالمقارنة مع السيارة الأولى، تبدو صفقة جيّدة وقد لا تعوّض. وتشعر أنه يجب عليك شرائها قبل أن يخطفها شخصٌ آخر! نعم لقد سقطت للتو كضحية لواحدة من أكثر تقنيات البيع شيوعًا - تأثير التباين.

تأثير النقيض أو تأثير التباين وآخرون يسمونه بتأثير التضاد هو التقليل أو التضخيم في الإدراك من خلال الحكم على الأشياء نتيجة التعرض لنقيضها في نفس الوقت أو ربما قبلها مباشرة. في المثال أعلاه، بائع السيارات عرض عليك سيارة مكلفة للغاية أولًا وهو يعلم بعدم مقدرتك على شرائها. كي يعرض عليك السيارة الثانية والتي يود بيعها لك في الواقع ستبدو لك السيارة حينها غير مكلفة مقارنة مع الأولى.


الناس الذين يعملون في المبيعات يستخدمون تأثير التباين كثيرًا عن طريق إظهار منتجات ذات جودة رديئة جنبًا إلى جنب مع منتجات يودون بيعها لك. بطبيعة الحال، الكثير من الناس لن يختار أن يشتري المنتجات الرديئة مقابل المنتجات الأكثر جودة. أيضًا، وفي مثال أكثر شيوعًا، قد يبيع لك رجل المبيعات خدمة أو سلعة إضافية تُضاف للمنتج الأساسي، كأن تقوم بشراء هاتف ذكي جديد بقيمة لا تقل عن 3,000 ريال. ثم يقدم لك البائع غطاء لهاتفك الذكي الجديد بقيمة 50 ريال. وبالنظر لسعر الغطاء فإنه يبدو رخيصًا بالمقارنة مع المبلغ الذي قمت بدفعه لرجل المبيعات ثمنًا لهاتفك الجديد. تمامًا، كما تفعله بعض شركات الطيران عن طريق إلزام الزبون بدفع مبلغًا إضافيًا لاختيار الكرسي، كونه يشكّل مبلغًا زهيدًا بالنسبة لـ 3,500 ريال سعر التذكرة.


تأثير التباين هي ظاهرة بشرية يدرك فيها الناس اختلاف الأشياء من حولهم بشكل أكبر أو أقل مما هي عليه في الواقع، بسبب التعرض للنقيض منها في وقت واحد، مع خصائص مماثلة، ولكن الصفات الرئيسية فيها مختلفة. تمت ملاحظة تأثير التباين في القرن السابع عشر عن طريق الفيلسوف جون لوك John Locke، الذي لاحظ أن الماء الفاتر يمكن الشعور به كماء بارد وحار في ذات الوقت اعتمادًا على ما تشعر به اليد قبل وضعها في الماء سواءً كانت تشعر بالحرارة أو البرودة. وفي أوائل القرن العشرين حدد ولهلم فونت Wilhelm Wundt هذا التأثير كمبدأ أساسي من الإدراك. ومنذ ذلك الحين تم تأكيد هذا التأثير في العديد من المجالات المختلفة.


الإدراك البصري ليس هو الشيء الوحيد الذي يلعب تأثير التباين فيه في الحكم على الأشياء. يمكن أن يحدث هذا مع الإدراك البشري كذلك تحت ما يُسمى بالانحياز المعرفي Cognitive Biase. مثال ذلك هو عند تصحيح مساعد الدكتور في الجامعة لأحد بحوث الطلبة والذي يحمل أخطاء كثيرة ومتعددة يحصل صاحبها على درجة متدنية. وعندما لا يحتوي البحث الذي يليه لطالب آخر أي من هذه الأخطاء العلمية والنحوية، فإن مساعد الدكتور غالبًا وبشكل لا إدراكي يمنحه درجة أعلى بكثير من البحث الآخر على الرغم من أنه قد يحمل قصورًا وأخطاءً في جوانب أخرى. ولكن لأنه يبدو جيدًا بالمقارنة مع البحث السابق. هذا التأثير يمكن أن يُشوّه الأحكام الخاصة بالناس، ولتفادي الوقوع في ذلك قدر الإمكان في رصد الدرجات، كما في المثال، يأخذ مساعد الدكتور عينة عشوائية من أوراق البحوث ذات درجات مختلفة والتي عمل على تصحيحها وتسجيلها، ثم يسأل مساعدًا آخر للإطلاع عليها وقرائتها والتأكد من أن الدرجات المسجلة عادلة.


يُمكن الاستفادة من هذا التأثير في المبيعات كما تم ذكره. فغالبًا ما يُستخدم هذا التأثير عند إجراء خصومات على السلع كالملابس في المتاجر. حيث ينظر المشتري للسعر السابق الموضوع بجانب السعر الحالي للسلعة بعد الخصم. وعندها يبدأ تأثير التباين بالتأثير نفسيًا على الإدراك لدى المشتري عن طريق المقارنة بين الأسعار. وفي نهاية المطاف الكثير من الناس يشترون تلك السلع لاقتناص الفرصة وأخذها بسعر أقل من السابق رغم عدم حاجتهم الضرورية لها، ولا يدرك الكثير منهم الوقوع في هذا الفخ. تستغل الشركات هذه الغريزة لدى الإنسان بتفاعله مع هذا التأثير تحت ما يسمى في المبيعات بتأثير الطُعم Anchoring Effect. مثل أن يتم عمل خصومات على الأحذية والتي كانت قيمتها 300 ريال ثم أصبحت بـ 265 ريال.


من الصعب التغلب على تأثير التباين لدى غالبيّة الناس، فهو مُرسخ بشكل طبيعي في الدماغ. حيث أن طريقة تفكير الإنسان في النظر إلى العالم من حوله مبنيّة على ذلك. لكن التوعية حول تأثير التباين ذات أهمية كبيرة، حيث تساهم في توعية الناس في اتخاذ خطوات لتفادي ذلك قدر الإمكان.



فقد يُشارك الناس في أنشطة تقف ضد مصالحهم نتيجة لهذه الانحيازات


مثل الانحيازات المعرفية الأخرى، يمكن لتأثير التباين أن يُفسر بعض السلوكيات البشرية التي تبدو متناقضة، حيث يُشكل جزءً هامًا من النفس البشرية. فقد يُشارك الناس في أنشطة تقف ضد مصالحهم نتيجة لهذه الانحيازات مثل التصويت في الانتخابات البرلمانية، والحملات التسويقية، وإيصال رسائل عبر الإعلام باستخدام هذا التأثير. نجد ذلك كثيرًا في الشبكات الاجتماعية مثل تويتر وفيسبوك حيث أن المشاركين في النقاشات التي تحدث فيها يخضعون غالبًا وبشكل لا إدراكي لهذا التأثير في الحكم على القضايا التي تحدث حولهم، مثل النقاشات الدينية وانتقاد بعض الظواهر في المجتمع السعودي وإسقاط أشخاص وتصدير آخرين وتجييش الحشود في معارك بين وجهات نظر مختلفة يخضع فيها العقل لقيود تعيقه عن رؤية الأشياء بشكل محايد.

كما يمكن للناس أيضًا أن يفعلوا أشياء تبدو خارجة عن المألوف، مثل زيادة الإنفاق في التسوّق أكثر مما كان مخططًا له في الأصل بسبب أساليب البيع الذكية التي تستغل نقاط الضعف النفسية المعروفة.



هذه المقالة كُتبت في 9 يناير 2017 ونُشرت في منصة أخرى، ونقلتها هنا مؤخرًا.

Join