معركة القهوة


مقال للكاتب محمود أحمد في صحيفة البيان


Image drop

لا نستطيع أن ننكر أن قهوة الصباح لها عبقها الخاص وطقوسها، وهذه الطقوس قد لا تختلف عندي عن الكثيرين من القراء من محبي القهوة، حيث أبدأ كل صباح بالبحث عن آلة صنع القهوة المنزلية "نسبرسو"، وأختار كبسولة صغيرة ملونة وجميلة تحتوي البن المطحون والمضغوط، لأحصل على قهوة لذيذة في ثوانٍ، ومن ثم أرمي الكبسولة وآخذ فنجان القهوة معي، فخورا بأني أفضل صانع للقهوة.

يعتبر جهاز نسبرسو وكبسولات القهوة، جزءا من إمبراطورية شركة نستله السويسرية المالكة للكثير من المنتجات الغذائية، ومنها "نسكافيه" و"كيت كات"، وتبلغ مبيعات هذا المنتج ما يقارب 3 مليارات دولار أمريكي سنويا.

وتاريخ هذا الجهاز وكبسولاته يعود لعام 1976، عندما قام أحد موظفي مختبرات نستله للأبحاث "إريك فافر"، باختراع جهاز صغير لصنع القهوة قادر على تجهيزها في لحظات، بواسطة ضغط الهواء والماء الحار في كبسولات صغيرة تحتوي على عصارة القهوة، وقد حصلت الشركة آنذاك على براءة الاختراع، مما ساعد "نستله" على الدخول إلى عالم أجهزة صنع القهوة، بدلا من الاقتصار على صنع البن المطحون "نسكافيه".

ورغبة في الانتشار والمنافسة قامت شركة "نستله" بإنشاء شركة "نسبرسو"، لتكون المالكة الحصرية لبراءة الاختراع والذراع التسويقية للجهاز وكبسولات القهوة.

ولكن لم يكتب للجهاز أو الشركة أي نجاح، لأن سياسة التسويق لـ"نسبرسو" كانت تعتمد على التركيز على بيع المنتج للمكاتب والمطاعم والمقاهي، إلا أن هذه الشريحة من المستهلكين رأت أن كبسولات القهوة غير عملية وغالية الثمن ومذاقها غير جيد، وكان التوجه السائد في الشركة الأم "نستله"، هو ضرورة حل شركة "نسبرسو" وسرعة الخروج من هذا السوق الذي ليس للشركة فيه ناقة أو جمل.

وفي عام 1986 قامت نستله بتعيين "جان بول جيلارد" رئيسا تنفيذيا لشركة "نسبرسو" للقهوة، فبدأ يفكر مليا في كيفية تحويل اختراع فاشل إلى ثورة حقيقية في عالم القهوة، فعرف أن السر يكمن في صعوبة تسويق الجهاز والكبسولات، فقام بتحويل التركيز من بيع الجهاز للمكاتب والمطاعم، إلى التركيز على شريحة أخرى مهمة وهي الأسر الغنية.

واعتمد على البريد والانترنت لتوزيع كبسولات القهوة، وقام كذلك بإطلاق "البوتيكات" الخاصة لـ"نسبرسو" في مراكز التسوق والمحلات الكبرى، وكذلك إنشاء نادٍ لمحبي القهوة يبلغ عدد أعضائه ما يقارب 10 ملايين شخص.

لكن الصعوبة الحقيقية كانت في تقبل المستهلكين لطعم القهوة الجديدة، لذا قامت الشركة بالتركيز على الإعلانات التلفزيونية بواسطة نجوم هوليوود، مثل النجم الشهير جورج كلوني، وكذلك قامت الشركة بإنجاز تسويق مبتكر، حيث قامت بالاتفاق مع شركات الطيران، على تقديم أجهزة مع كبسولات قهوة مجانية لمسافري الدرجة الأولى ورجال الأعمال، مما ساعد الشركة على الوصول إلى ما يقارب 3 ملايين مسافر سنويا.

وفي غضون عشر سنوات استطاع "جيلارد" تحويل "نسبرسو" إلى درة تاج شركة "نستله"، وبمبيعات تفوق 3 مليارات دولار، والتي تعتبر 4% من الأرباح الكلية للشركة الأم "نستله"، وبهامش ربح يتجاوز 38%، وفقا لتقرير صادر من بنك مورغان ستانلي.

 

ولكن الشركة أصيبت بنكسات قانونية عام 2012، عندما حكمت المحكمة العليا في ألمانيا بجواز تسويق إحدى الشركات الألمانية المنافسة لشركة "نسبرسو"، لكبسولات قهوة كتب عليها أنها يمكن استخدامها في جهاز "نسبرسو".

وفي الأسبوع الماضي كذلك أصدرت المحكمة العليا في بريطانيا حكما سيغير بلا شك شكل صناعة القهوة في العالم، عندما حكمت بأن قيام مصنع بريطاني صغير للقهوة "دولت" بصناعة وإنتاج كبسولات قهوة تصلح للاستخدام في أجهزة "نسبرسو"، لا يعتبر انتهاكا لبراءة اختراع شركة "نسبرسو"، وللمستهلكين الحق في اختيار كبسولات القهوة من الشركة المصنعة للجهاز أو من أي شركة أخرى، في حال امتلاكهم ودفعهم لقيمة الجهاز كاملا.

ولكن شركة "نسبرسو" ادعت أمام المحكمة بأن نموذج أعمالها يقوم في الأساس على بيع أجهزة رخيصة وبهامش ربح بسيط جدا، أما الأرباح التي تحققها فهي ناتجة عن بيع كبسولات القهوة، ولذا فإن هذا الحكم سيؤثر بلا شك على الشركة السويسرية وأرباحها.

ويعتبر هذا الانتصار القضائي انتصارا للمستهلكين، حيث أصبح في مقدورهم الحصول على خيارات أوسع، ما يخلق توازنا حقيقيا بين تشجيع المبتكرين عن طريق إيجاد حوافز اقتصادية لهم نظير جهدهم وإبداعهم، وبين تسليط سيف التشريعات على المستهلكين وعلى المنافسين التجاريين واحتكار السوق.

والتاريخ الحديث للصناعة يزخر بالكثير من الأمثلة التي تدل على أن بعض الشركات سعت لاستغلال قوانين الملكية الفكرية، عن طريق شراء براءات الاختراع من المخترعين الأصليين.

ومن ثم وضعها على الرفوف، فقط لضمان عدم استخدام المنافسين للاختراع. فعلى سبيل المثال، قامت شركة "تي اند تي" الأمريكية الشهيرة للهواتف عام 1875، بشراء جميع براءات الاختراع المتعلقة بالاتصالات لضمان عدم حصول المنافسين عليها، مما أدى إلى تأخر قطاع الاتصالات لمدة 20 عاما، أو حتى انتهاء الحماية القانونية للاختراعات.

وفي عام 1995 قامت إدارة مبنى متحف الروك أند رول في أوهايو، وهو المبنى الذي قام بتصميمه المعماري العظيم "أي إم بي"، برفع دعوى قضائية على المصور الأمريكي المبدع "تشارلز إم" لمنعه من نشر صور المبنى، بحجة أنها تملك حقوق الملكية الفكرية لهذا المبنى ويجب على المصور دفع مبلغ مالي نظير تصويره له.

إن قوانين الملكية الفكرية، والتي وضعت منذ أكثر من ثلاثة قرون لخلق الحوافر الاقتصادية للابتكار من خلال حماية حقوق المبدعين، هي ذاتها التي تعرقل الابتكار والنمو الاقتصادي للكثير من الدول، وبالخصوص الدول النامية التي تسعى إلى دخول نادي المنتجين، ليبقى السؤال الأهم: هل تقع المسؤولية على القضاء أم على المشرعين لخلق التوازن المطلوب بين الحماية القانونية لحقوق الملكية الفكرية وحق المجتمع في الحصول على المنتج من دون احتكار؟!

Join