عن الجوع الذي لا يُؤكل

يقول الكاتب الأميركي ليو بوكساليا المعروف باسم "دكتور لوف"

الجائع لا يريد قطعة خبز فحسب، بل يريد كرامته معها

وأنا أقول الجوع الحقيقي ليس في المعدة، بل في شيء أعمق.. في الرغبة، في الاشتعال الداخلي، في البحث عن شيء أكثر من البقاء، كلنا جُعنا ذات يوم، لكن لم يكن جوعنا دائمًا للطعام، بل جُعنا لنثبت أننا قادرون، جُعنا لنكون مهمين في عالم لا يلاحظ أحدًا، جُعنا للمعرفة، لنفهم أنفسنا قبل أن نفهم العالم، وجُعنا لحياة نعيشها بكرامة لا بروتين.

عن أنواع الجوع التي لا تتغذى بالخبز..

جوع المعرفة..

الذين يشعلهم هذا النوع من الجوع، لا يكتفون بإجابة واحدة، كل معلومة تقودهم إلى سؤال، كل كتاب ينتهي، يبدأ بعده فضول جديد، هؤلاء لا يدرسون فقط في الجامعات، بل يتعلمون من الأخطاء، من الحوارات، من وجوه الناس، الجائع للمعرفة لا يشبع أبدًا.. لكن كل قضمة تزيده إنسانية.

عش كما لو أنك ستموت غدًا.

تعلم كما لو أنك ستعيش للأبد

راي برادبري

جوع العمل والإنتاج..

في مقال نشرته Harvard Business Review بعنوان “The Hunger to Do More”، ذُكر أن أغلب من يحققون إنجازات في حياتهم ليسوا بالضرورة الأذكى.. بل الأكثر جوعًا للمحاولة، الأكثر استعدادًا للركض حين يجلس الآخرون، الجائع للعمل لا ينتظر ترقية.. هو يعمل وكأن الترقية في الداخل، وكأن الإنجاز طعامٌ روحيٌ لا يمكن العيش بدونه.

جوع الإثبات..

ربما هذا أصعب الأنواع، أن تجوع لإثبات ذاتك في عالم يغمض عينيه عنك، أن تعيش وأنت تحمل داخلك صوتًا يقول “شوفوني… أنا أقدر” وهذا الجوع مرهق، لكنه يصنع المعجزات، يصنع الفنان الذي كبر في حي فقير، يصنع لاعب الكرة الذي سخر منه الجميع، يصنع الإنسان الذي تم رفضه ألف مرة، لكنه ما زال واقفًا..

وبعيدًا عن السياق..

في الحديث الصحيح، قال النبي محمد صلِ الله عليه وسلم

ما ملأ آدميٌّ وعاءً شرًّا من بطنٍ، بحسبِ ابنِ آدمَ لُقيماتٍ يُقِمْنَ صلبَه

الجوع المذموم ليس جوع المعدة.. بل الجوع الذي يُفسد، الذي ينهش، الذي يحوّل الإنسان إلى كائن شرِّه لا يكتفي أبدًا، أما الجوع الذي يحركك نحو الأمام، فهو نعمة، جوع الصحابة لم يكن للطعام، بل لأستقامه البدن، وللجنة، وللحق.

أما أنا.. فقد كنت جائعًا، كنت في أيام كثيرة، لا يملأني إلا الجوع..

جوع إثبات الذات في زوايا لا يراني فيها أحد، جوع المعرفة في ليالٍ لا تنتهي، جوع التعب، أن أُرهق لأشعر أنني حي، جوع الإنجاز، أن أضع رأسي على الوسادة وقد فعلت شيئًا يستحق الذكر… كنت أكتب، أقرأ، أركض، أبحث، أسأل، أتحدث… كأنني أحاول تعويض شيء لم أفهمه بعد، لكن مؤخرًا… شبعت!!


شبعت من الركض، شبعت من المحاولة، شبعت من نفسي التي تظن دائمًا أن عليها أن تفعل أكثر، وتكون أكثر، أشتاق لنفسي الجائعة.. نعم، أفتقد ذاك الجوع الشريف الذي كان يوقظني قبل المنبه، ويشعل عيني قبل القهوة، ويسابق الزمن كأن الحياة كانت ساحة سباق، لكنني أيضًا… لا أكره هذا الشبع، فهو ما يجعلني أكتب الآن، وأبتسم، وأقول لك، ولنفسي.. “كن جائعًا… لكن لا تكن جائعًا دائمًا”

ففي لحظة ما.. يحتاج الإنسان أن يكتفي،أن يُمسك بيد نفسه الجائعة، ويقول لها ارتاحي الأن.. ولنواصل غدا.

Join