الإنسان المهدور

غيــــــــاب المعــــــنى


محمد صرخوه

-١-

جلجاميش كان حاكما مرفّها. أصابه موت رفيق دربه بربكة غياب المعنى ..

كان المعنى غائبا عنه منذ البداية . ولذلك كان عاكفا على الصيت والرفاهية. فلما لف موت انكيدو انتباهه اتجاه غياب المعنى. قرر البحث.. وصار سعيه حثيثا لا للمادة. بل للخلود ..


إنسان اليوم . يعيش بمعزل عن المعنى بلا ارادة . قادته خيبة الحكومات و المتآمرين بالحديد و النار للانشغال عن المعنى من وجوده . هومهدد بقوت يومه . و في المقابل يرى الرفاهية الباذخة التي يعيشها المتنفذون . فبات جل سعيه يتحرك بدافع الشعور بالنقص . و فقدانالمعنى نحو قيمة وهمية 


انسان اليوم مستنزف اقتصاديا و مهدد بقوت يومه . الا انك لو اهديته الف دينار . فسيصرفها كاملة في محال رولكس !


انسان اليوم يعاني من الضعف الجنسي . و الكبت . رغم ان كل ما يتعرض له من مواد مرئية . مشحون شحنا كاملا بالاباحية !


انسان اليوم مهمش . ممنوع من المعارضة . و قد تكلفه كلمة واحدة ينتقد فيها المتنفذين حياته و وقته و وظيفته و سمعته .. لذلك نجده منهكافي (الدَّكوَرة) . كل سعيه موجّه ليقول (أنا ايضا وجيه من وجهاء المجتمع) ! 


-2-

بغياب المعنى عن الانسان . و استحواذ الطبقات الحاكمة لكل مورد السلطة و البذخ . انقلب هرم ماسلو للاحتياجات الفطرية . فبعد أن كان الاكل و الشرب و اللباس لأجل العيش . صار العيش لأجل الاكل و الشرب و اللباس !


اتذكّر أولى أيام ظهور مواقع التواصل . كان الهدف منها استعراض التفاصيل اليومية للناس باختلاف طبقاتهم . فهي تتيح للجميع كائن منكان عرض اصدقائه و سهراته و ممارساته الرياضية و هواياته بعيدا عمّا يسمى (برستيج) 


مع تتابع الايام . و تفشّي مشاعر النقص في المجتعات . غيّر الفرد العادي قالب سلوكه الفطري الاعتيادي . بات يصوّر نفسه كعارض أزياء . أو كمن يرغب في أن يُنحت له نصب في الساحة الرئيسية لبلدته !


يقف على الرصيف بوضعية الاستعداد الدائم للكاميرا . تماما كما لو كانت شاشات الكرة الارضية مصوّبة نحو . يدس يدا في جيب و اليدالاخرى توصل سيجارة بفمه (ذي الشفتين الورديّتين دوما) !


يتباهى بعدد (الفولورز) . يعتقد أن الكبس على زرّ المتابعة لشخص قام بمتابعته فعلا رذيلا لا يليق ببرستيجه . لذلك نرى البعض مثلا يمارسبعض السلوك المضحك . حينما يلغي متابعته لمن يتابعه بعد حين للحفاظ على مظهره القائل (انا أُتابَع و لا أُتابِع) !


يصوّر كل شيء يقوم به بزيف تام . فقد يأكل سندويشة فلافل بشفتين غارقتين بالطحينة . لكنه يصور للناس بأنه أمام طبق سوشي !


لا يخفى على المختصين بأن كل هذه السلوكيات الظاهرية تنتمي للطبيعة (الانثوية) لا الذكورية . فالانثى هي التي تتمكيَج . فكيف طغتروحها على طبيعة الناس قاطبة (و الرجال أوّلهم) !


هذا ما أسمّيه تغيّرا بالسلوك الفطري الاعتيادي . حيث يتصرف الرجل وفقا للظاهر الاجتماعي لا القيمة المعنوية الحقيقية في ذاته 


في تويتر الكلّ مؤرشف مقولَب . حتى المتمرّدون . فقد بات التمرّد قالبا متاحا له هواته و جمهوره 


رأيت هذه السلوكيات في الغرب . لكنها كانت قليلة اذا ما قورنت بما هو عندنا في المجتمعات العربية . و السبب . هو أن الاستحواذ علىالسلطة في الغرب ليس كما هو عليه هنا . بالتالي تقل نسبة غياب المعنى هناك . و يقل الشعور العارم بالنقص كذلك !


-3-

في بدايات انتشار مواقع التواصل . كنت ألاحظ بعض الأصدقاء و المعارف حين لقائي بهم في أماكن مختلفة . كيف كانوا يهتمون بتصوير لقطات لهم و نشرها . كانوا يبذلون جهدا في توجيه ملتقط الصورة .. (خذها من هذه الزاوية . لا لا أعد الكرّة . شغل الفلاش) 


كان ذلك السلوك غريبا عليّ و لم يكن مفهوما . (مَ الذي يفعله هؤلاء الحمقى) ! .. كانت تلك الدفعة الأولى من الذين جرفتهم الانعطافةالسلوكية ..


يوما بعد يوم . وصولا الى يومنا هذا . بات أمر نشر صورة للشخص أعقد من النظرية النسبية ! بقدر ماهو أمر منتشر انتشار الفايروسات  


الأمر يتطلب مهارات في التصوير و نظرة خاصة له . كادراك الزاوية . و حركة الرأس . و المعنى الذي ستوصله الصورة . و الانطباع حولصاحبها . ملاكا . شيطانا . مطبلا . ثوريا .. ثورا ! 

و الأكثر عسرا على الفهم . هو أن الجماهير العامّة التي تطلب تبسيط العلوم و الادبيات و تطويع المجرات لها دوما .. تفهم كل تلك التفاصيلكمتخصصّي تصوير !


من جهة . هم يفتقرون للقيمة و الشعور بالمعنى . و من جهة اخرى يمتلكون مهارات التصوير و الظهور . و هذا ما يفسر تفشّي الغوغاء فيتويتر و غيرها من مظاهر الحياة اليومية 


فكلهم فلاسفة . شعراء . حكماء . كتّاب . سياسيون . تجّار . مغازلون من الطراز الأوّل .. أو إن صحّ التعبير .. مغازَلون ! و هو الأمر الذييفسر طوفان الكتابات و المؤلفات المتضخم .. و غياب النّقاد !


كلّ هذا .. قد يتقنّع بقناع البحث عن الثقافة . و النجاح . و العصامية . و حتى التمرّد .. و لا أحد يشير إلى السبب الحقيقي .. أو حتّىيجرؤ .. و هو فساد الحكومات و مصادرة السلطة لصالح البطريَرك الواحد !


أي باختصار شديد .. 

خصى أجيالا من الرجال ..

كي يشعر بأنّه رجل !


-4-

لست أنسى الفتى الذي تعاركت معه باللكمات قبل اثني عشر عاما لما بدر منه من سوء أدب عدائي . كنت اتلاكم معه فيردد (انت ما تدري انا منو) ؟!

ثم لما تقصيت امره . وجدتها كانت كلمة حرب نفسية . و لسوء حظه كانت اجابتي (ما يهمني)

(ما تدري انا منو ؟) (ألا تعرف من أكون ؟) أكثر كلمة بات يرددها الناس في تماسّهم مع الاخر . يقولها اللصوص و القتلة حين القاء القبض عليهم . و يقولها أنبياء تويتر حين نقاشهم مع الاخر

(ألا تعرف من أكون ؟) تدل على تضخم الأنا في النفوس . و الرغبة الملحّة في اثبات الوجود و نسف الاخر . و تدل ايضا على حقيقة نقيضها .. فهي نابعة من شعور حادّ بالضآلة و النقص لدى قائلها ! و فقدان المعنى !

باستحواذ (الطفل الكبير الاوحد) على السلطة الاجتماعية في اي مجتمع من المجتمعات يتقازم الشعور بالقيمة الانسانية . و يغمر الفرد شعور بحقارة الذات .. و كرد فعل نفسي .. تتضخم أناه ! و يبذل كل وسعه ليقول للاخرين (انا هنا . انا ضخم و عظيم .. ألستم ترونني ؟)

(ألستم ترونني) تعني بداية الصافرة لحفلة التفاهة الكبرى و كرنفال الاقنعة العالمي .. ! و هي الوسيلة المثلى للجبناء . الذين آثروا زيفهم و زيف اجيالهم القادمة على تغيير الواقع !