“اندثار اللغة العربية” وتأثير اللغة الأجنبية على الفرد والمجتمع

تحقيق صحفي

ترتشف آخر ما تبقى من فنجانك بتلذذ، مزيج الهيل والقرنفل العطري يتغلغل في خلاياك فتشعر بحنين لشيء ما.. مرارة تبقيها القهوة العربية في فمك، تعيد لك حكايا الأجداد، وبينما أنت غارق في ذكريات لاوجود لها تفوح برائحة البخور والعود تصطدم بأذنيك عبارات متضاربة بلغة "إنجليزية" كسيحة :" ون آيس فرابتشينو وذاوت ايس نو سكّر"!

 تتقلص ملامحك، الحقيقة أن هذا هو الواقع الآن، بالكاد تجد من يتحدث العربية من العمالة، بل حتى من السعوديين العاملين في الأماكن العامة ، وتحديداً " الراقية" منها، تنهض لتحاسب فتجد نفسك تقول لا أرادياً :" checkplease (الفاتورة لو سمحت)" .

إعداد: مرام المسعودي ، شيماء الدايل، عائشة السماعيل، هند القحطاني، فاطمة الحرز

 الواقع  يقول بأن الناس تتفاصح بغيرها حتى لو لم تكن تملك من اللغة الإنجليزية إلا please و Okay

يشهد مجتمعنا السعودي تصاعداً في استخدام اللغة الإنجليزية في الأماكن العامّة، كالمقاهي، المستشفيات، والأسواق، حتى أصبحت العادة أن تتحدث الإنجليزية مع الموظف حتى يثبت لك أنه يجيد العربية.

وباعتبارنا فتيات من هذه الفئة وجدنا أنفسنا غارقات في هذه الظاهرة حتى الأذنين قررنا أن نستطلع ونتعرف على عمق وأبعاد ظاهرة الحديث بالانجليزية في الأماكن العامة وتفضيلها على العربية في الحديث.

مسألة تفاصح وشعور جمعي

 تقول د.منى النصر رئيسة نادي الخطابة في جامعة الإمام عبدالرحمن بن فيصل:"  الواقع يقول بأن الناس تتفاصح بغيرها حتى لو لم تكن تملك من اللغة الإنجليزية إلا please و Okay"،   أى  تنطقها بطريقة التي تظهر التمكن، كنا نقول شوكولاتة ، والآن تقول تشوكليت، وتقولها بملء فيها ، هذا يعني التفاصح، وهذا يعني الانهزامية المؤلمة."  و أضافت أن الأمر يعود إلى شعور جمعي يمسّ حتى من لديه اعتزاز بهويته وانتماء لها يجعله يخجل من الحديث بالعربية مع موظفي الأماكن العامّة أمام الناس، لأن الجميع أصبح عنده عادة الحديث بالإنجليزية.

الشباب أكثر استخداماً

بينما ترى د. مرفت العثمان  رئيسة نادي المسرح في جامعة الإمام عبدالرحمن بن فيصل في الدمام بأن: "الموضوع يتعلق بفئات عمرية أكثر من كونه يتعلق بحالة عامة،  فالمسألة أصبحت استعراضية لدى الشباب ، فالشاب يستعرض كلماته بلغة أخرى ، فلدى تلك الفئة  حالة من عدم الاهتمام باللغة العربية مطلقاً، أما بالنسبة لباقي الفئات العمرية فليس بنفس الدرجة، لكنها تعتبر ظاهرة تستحق أن تدرس وتعالج."

هل تندثر اللغة العربية؟

أشارت الأستاذة عائشة العزاز أستاذ اللغة العربية وعضو لجنة التحكيم في (سوق عكاظ ) أن  اللغة  العربية باقية وتفرض نفسها، ولكن  ترى أن  استخدامها مُهمَل، وللأسف يُغَض الطرف عنها، ويُتَساهَل بمزاحمة اللهجة العامية لها، وحتى الكلمات الأعجمية يسهل وجودها واستخدامها في صياغة الإعلانات، وكتابة الأخبار؛ مما يؤدي إلى ظهور تلك الإعلانات والأخبار بلغة شوهاء وأسلوب ركيك غالبًا.

 وفى سياق متصل أكدت  أ. يسرى البلوي مديرة مدرسة  ومهتمة باللغة العربية: "  أن اللغة السائدة في الدوائر الحكومية والمرافق العامة سواء اللغة المحكية أو المكتوبة هي اللغة العربية،  فاللغة لن تندثر ، ولكن يلاحظ هناك من يقحم اللغة الأجنبية أثناء تعامله مع الجمهور أو العكس، حيث  يظن البعض إنه نوع من أنواع الرقي أو إبراز ثقافته، ولكن للأسف هذا دليل على ضعف الانتماء للهوية العربية."

يلاحظ أن هناك من يقحم اللغة الأجنبية أثناء تعامله مع الجمهور أو العكس، حيث  يظن البعض إنه نوع من أنواع الرقي أو إبراز ثقافته، ولكن للأسف هذا دليل على ضعف الانتماء للهوية العربية

بصمات الإعلام ومتطلبات سوق العمل

 أكدت  د.مرفت  العثمان  أن أحد أسباب تحوّل الحديث باللغة الإنجليزية  ،  التفاخر ولإعلام الموجِّه والذي يلعب دوراً كبيراً في التأثير على الفرد والمجتمع،  وأشارت إلى عامل في غاية الأهمية ، هو الطلب الموجود في سوق العمل المؤثر على توجهات الناس من الناحية اللغوية، مشيرة إلى  أن وسائل التواصل الاجتماعي تُعد من أسباب هذه الظاهرة، كون الأشخاص هناك يكثرون من استخدام المفردات الأجنبية؛ لذلك لا يحب الفرد أن يشعر بالغربة بينهم، بل يحب أن يشعر بالانتماء والاندماج في المجموعة.


 فى حين ترى أ. يسرى البلوي أن إحلال لغة أجنبية في بعض المرافق على حساب اللغة العربية ،  يرجع إلى عدة أمور تتمثل في : جهل بعض أبناء العربية بقيمة ومكانة لغتهم الأم، ضعف دور المدرسة والمنزل في تعزيز أهمية اللغة العربية، ودور وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي في الترويج للغة الأجنبية من خلال إبراز من يتحدثها بالرقي والثقافة على حساب اللغة العربية.

وأضافت أ. هند مبارك مديرة مدرسة ومتخصصة في اللغة العربية، بأن اعتماد الفضائيات على المذيعين والمذيعات الذين لا ينطقون العربية بشكل سليم كان من الأسباب، وإهمال أصحاب العمل للغة العربية، وعدم وضعها كشرط أساسي في التقدم إلى الوظائف، بل على العكس يكون الاهتمام الأكبر باللغة الإنجليزية واللغات الأجنبية الأخرى. وأيضًا الأسلوب السيء في تصميم وتأليف الكتب المدرسية الخاصة باللغة العربية، وافتقارها إلى التشويق والأسلوب الجاذب للطالب، فأغلب الكتب تقوم بسرد القواعد والنصوص الأدبية والشعرية بأسلوب تقليدي.

آثار التراجع

أما عن أسباب تراجع استخدام اللغة العربية ،  أشار البعض إلى تراجع العالم العربي في جميع المجالات فقد أجمعن أن الأمم لا تنهض ولا تتقدم إلا بلغتها، وانطماس الهوية العربية وربط التقدم والرقي باللغة الأجنبية لايقيم حضارة مستقلة.، بالاضافة  إلى  تدهور قدرات الطلاب في اللغة الأم (العربية) وهدم أركانها مما أدى إلى انتشار العجز اللغوي وضعف التراكيب البلاغية والتعبير الشفهي والكتابي ..

 

وأضافت أ. يسرى البلوى في أن الأثر يكون بتغليب اللغة الأجنبية على حساب اللغة الأم في بعض المهن والوظائف ، وازدياد الاعتماد على اللغة الأجنبية جيل غير ملِّم بلغته العربية كما حدث في بعض الدول العربية مثل لبنان والمغرب العربي، وأيضًا إحداث فجوة بين أفراد المجتمع فهناك من لا يتقن أي لغة أجنبية فعند إقحامها في الحديث معه يشعر بالغربة والدونية.


 فى حين ذكرت أ. عائشة العزاز أن الأثر سوف يكون في التباعد المستمر بين العرب ولغتهم، والجفوة التي تتبدى في صعوبة فهم أبسط الكلمات، وظهور سطحية المعرفة بالفصحى لدى كثير من أبنائنا وبناتنا، وهذا أمر خطير إذا وصل إلى الجهل بألفاظ القرآن الكريم والحديث النبوي وصعوبة فهمهما.، وضعف المقدرة على التعبير وصياغة الفكرة التي تجول في ذهنه باللغة العربية؛ فالمتحدث بسبب افتقاده الكلمات العربية، وخواء عقله من مفردات فصيحة مؤدية للمعاني بدقة وبراعة يتلجلج ويعجز عن شرح مراده ببراعة واقتدار، ويضطر إلى اقتراض كلمات أجنبية تسعفه في التعبير مهمشًا لغته العامية التي يتباهى باستخدامها؛ فالعامية مهما ارتقت لن تبلغ عشر ما للفصحى من ثراء بالألفاظ، ودقة في التعبير عن كل المعاني والمشاعر ناهيك عن سحرها وجمالها.

 

وفى هذا السياق أضافت د. ميرفت  العثمان  أن هناك فجوة بين الأجيال، وهناك تفضيل توظيف من يتحدثون اللغة الأجنبية في المرافق العامة في حين أن المواطنين أو المقيمين غالبيتهم يتحدثون العربية. وأيضاً أصبح الشخص يخجل من التصريح بأنه لا يتحدث إلا العربية، وفي المقابل تضيع كثير من الحقوق بسبب عدم فهم متحدث العربية للغة الأجنبية في كثير من المرافق الخدمية ،  فبعض الشباب للأسف لا يعرفون بعض المصطلحات العربية،  حتى ضعفت قدرتهم على التعبير ولديهم تأخر في الاستيعاب؛ لأنهم لم يعتادوا أن يفكروا باللغة العربية، وكل هذا يرجع إلى ضعف ثقافتهم العربية، وهذا الضعف بالتالي أدى  إلى ضعف الانتماء للهوية الإسلامية العربية، فأي أمة في العالم تقوم على ثلاث مرتكزات رئيسية وهي: التاريخ، الدين، اللغة. ولذلك فإنه يؤثر على صدق الانتماء والمواطنة لديهم.


فى حين كانت رؤية د . منى النصر للأثر مختلفة ، حيث تقول : "عندما تكون لدي طالبة من حفظة القرآن الكريم أجد أثر ذلك في لغتها في فصاحتها، في ثقتها، في إلقاءها، وأستطيع تمييزهن بالمحاضرة من أجوبتهن مهما تباينت أشكالهن".


مبادرات فى رحاب الارتقاء باللغة العربية

ظهرت في الآونة الأخيرة الكثير من المبادرات التي تعزز اللغة العربية في الأماكن العامّة، وتعيدها باعتبارها موجة رائجة كما تعدّ الإنجليزية اليوم هي الرائجة و"Trending" كما يفضل البعض تسميتها

تشرفنا بالحديث مع العاملين في بعض من هذه المبادرات المتميزة لنتعرف أكثر على مبادراتهم والسر وراءها، وفي تغطية بعض هذه المبادرات في هذا التحقيق.