من أصعب الأمور على العاقل الرزين، إهمال الخلق له على التعيين، فكيف إذا كان ذاك التخلي من أقرب المحبين.
والموفق هو الذي لايقف عن ذلك، بل يسعى ويجتهد ويسأل ويحاور عن سبب ذاك الإهمال، أليس هو من بني الإنسان.
ويزداد الألم والحسرة لدى المؤمن حين يشعر بعدم مبالاة الله به، الله خالقه ورازقه والمُنعمُ عليه، الله الذي يطمح كل الخلق لمحبته ويسعى لتحقيق رضاه، ويبقى السؤال هل هذا ممكن؟
لنقرأ هذا الحديث:" يَذْهَبُ الصَّالِحُونَ، الأوَّلُ فالأوَّلُ، ويَبْقَى حُفالَةٌ كَحُفالَةِ الشَّعِيرِ، أوِ التَّمْرِ، لا يُبالِيهِمُ اللَّهُ بالَةً[1]" وفي رواية أخرى " يُقْبَضُ الصَّالِحُونَ، الأوَّلُ فَالأوَّلُ، وتَبْقَى حُفَالَةٌ كَحُفَالَةِ التَّمْرِ والشَّعِيرِ، لا يَعْبَأُ اللَّهُ بهِمْ شيئًا."[2]، لا يعبأ الله بهم -والعياذ بالله- لا يُبالي اللهُ بهم شَيئًا، ولا يَكتَرِثُ بهم، ولا يَرفَعُ لهم قَدرًا، ولا يُقيمُ لهم وَزنًا.
لماذا؟
من المؤكد الإنحطاط والإنحدار إلى مستوى (الحُفالة) لم يكن بين يومٍ وليلة، وإنما نتيجة تراكمات من المعاصي والمخالفات لخالق الأرض والسموات، ليس ذلك فقط بل ربما استمرؤا ذلك وأصبح ديدنهم وحرصهم الأكبر ليس على تحقيق المُراد من خلقهم وإنما الحرص على تحقيق دنياهم، ولعل الحديث الذي رواه عبد الله بن مسعود عن رسول الله يفسر ذلك، حيث يقول ﷺ :" مَن جعلَ الهمومَ همًّا واحدًا ، همَّ آخرتِهِ ، كفاهُ اللَّهُ همَّ دُنْياهُ ، ومَن تشعَّبت بِهِ الهمومُ في أحوالِ الدُّنيا لم يبالِ اللَّهُ في أيِّ أوديتِها هلَكَ"[3]، فالقضية واحدة فالذي تشعبت همومه في الدنيا ونسي الآخرة وأغفلها واستمر على ذلك ، فليس في قلبه غير الدنيا، فهذا لايبالي الله به في أي أوديتها هلك.
ومن جميل التعبير النبوي قوله "في أي أوديتها هلك" فهو هبوط للوديان وليس ارتقاء لبني الإنسان، كما أنه جمع وادي، فوديان الدنيا كثيرة :
فقد يهلك في وادي الجاه والغرور والتكبر وحب الظهور،
وقد يهلك في وادي المال وبريق الذهب والدولار،
وقد يهلك في وادي الغناء والفنون، والتي يصحبها الفجور والمُجون،
وقد يهلك في وادي الرياضة والمنون،
وقد يهلك في وادي شبكة التواصل كالمجنون،
وقد يهلك في وادي الشهوات بلا واعظ ولا رادع،
وغيرها كثير فأودية الدنيا لا حصر الله.
وبمعنى آخر نسي أو تناسا ما خُلق له كما قال الشاعر:
قد هيّؤوكَ لأمرٍ لو فطنتَ لهُ فاربأ بنفسكَ أن ترعى مع الهملِ
وأنتَ في غفلةٍ عمّا خُلِقتَ لهُ وأنتَ في ثقةٍ من وثبةِ الأجلِ
فزَكّ نفسكَ مما قد يدنّسُها واختر لها ما تَرَى من خالصِ العملِ
أأنتَ في سكرةٍ أم أنتَ منتبهاً أم غرّكَ الأمنُ أم أُلهيتَ بالأملِ
نعم خُلقت لأمر عظيم وقضية جوهرية، وهي تتطلب السعي والجد والاجتهاد، والعاقل هو الذي يستحضر ذلك ويعمل به ومن أجله فهو لا يرضى إلا بحياة العز مهما كان ثمنها، و عكسه الذليل الذي يرضى بأي عيشٍ، ولو كان على حساب نفسه:
يرضَى الذليلِ بخفضِ العيشِ مَسْكَنَةٌ والعِزُّ عندَ رسيمِ الأينُقِ الذُلُل
وفي المقابل يدرك العاقل أن هذا الطريق فيه المصائب والمصاعب ما يتطلب التخلي عن السلامة أحياناً، والتضحية أحياناً أخرى، كما أنه موقن أن تلك سنةٌ ربانية لا تتغير ولا تتبدل، فمن كان همه الدنيا والسلامة فيها لا يطمح إلى المعالي، فلا مكان للكسالى بين أصحاب المعالي، وليكن مكانه في الحُفر:
حبُّ السلامةِ يثني هم صاحبهِ عن المعالي ويغري المرء بالكسلِ
فإن جنحتَ إليه فاتخذ نفقاً في الأرض أو سلماً في الجوِّ فاعتزلِ
ودع غمار العُلا للمقدمين على ركوبها واقتنعْ منهن بالبللِ
تلك هي الحياة وذاك هو الطريق، وأنت مخيرٌ بين أن تكون من الصالحين الموقنين الذي جعلوا همهم هماً واحداً هو النجاة في الآخرة فعرفوا الطريق وسلكوه أو أن تكون ممن تشعبت همومه الدنيوية ونسي رسالته ورضي بالسلامة مقابل آخرته.
وبطريقة أخرى بين أن تكون من الصالحين أو من الحُفالة[4]