مقعد الكرسي!

مضت عليّ ليالٍ مثقلة، مشاعر متخبطة، وقفت أتأمل قليلًا ما حدث..

وجدّتني أعود إلى ملفٍ مغُلق في ظاهره، مبعثر داخله، إلى صداقة قريبة انقطعت فأصبحت كجثةٍ في داخلنا لا تحمل فيها روحًا… فهي ألمٌ لم يُبرأ بعد، مثله كمثل حساسيةٍ شديدة ثارت فأخذت مسكّن يخفف أعراضها ولم يداوِ أصلها! وسرعان ما تستثار عند أدنى حدثٍ متعلّق بذاك الشعور


جلست أتأمّل الصداقات حولي، لمَ هذه الصداقة بالذات أحدثت ألمًا فارقًا عن غيرها رغم مرور سنوات عدّة؟!


كنت أدرك تمامًا أن الحُبّ تمكّن فيها، و أصبح تعلقًا، وما كان داخل القلب كان أكثر قدرةً على التأثير به، وكما قال الشاعر المُحبّ:


أنتِ النعيم لقلبي والعذاب له

فما أمرّك في قلبي وأحلاك!


و واعجباً! هل وُجد الحبّ ليكون ألمًا؟!

وإن كان البين موجعًا، والعلاقات تمرّ بمكدّرات من فِراق أو تغيّر حالٍ وانشغال، فهل معنى ذلك أن نتوقّف عن تكوين الصداقات؟!


لا لا أدعو لذلك..


لكن أدعو نفسي أن تكون كحارسٍ للقلب -وهي أعلم بمداخله ومؤثراته-

فتبصر بحاله وحال ما يسكن فيه، وتُلجم نفسها وتمسك زمام أمورها وأهواءها ..حتى لا تفلت منها، وحتى لا يتمكّن القلب مرةً أخرى فيسقط، فالمؤمن لا يلدغ من جحر مرتين!


وأنا أعلم تمام العلم بأن قلبي لا يعتاد الفراق والتغيّر سريعًا ولا يطيقه، ويبقى أَثَره ينكش في القلب نكشًا


وكما يقول المتنبّي:


خُلِقتُ أَلوفًا لَو رَحَلتُ إِلى الصِبا

لَفارَقتُ شَيبي موجَعَ القَلبِ باكِيا


"وأعلمُ أن البين يشكيكَ بعده

فلستَ فؤادي إن رأيتُكَ شاكيًا"!


وإن كان لا بُد من فِراق، ولا بُد أيضًا من علاقات تواسيك وتكن عونًا لك بعد الله، فكيف نعيش بسكونٍ وطمأنينة في العلاقات؟


 تأمّلت خير من فُقد على هذه الأرض، وأعظم المصاب مصاب فقده ﷺ .. كيف تحملوا فراقه؟! وكيف طابت لهم الحياة بعدَه!


رأيتهم أيقنوا تمام اليقين أن الدنيا ممر،

والآخرة مستقر! وأنه سبيلٌ موصلٌ للآخرة فإن مات ما ماتت عزائمهم..

فالخلود خلود الآخرة؛ (كل من عليها فان) (ويبقى وجه ربّك ذو الجلال والإكرام)


تألموا لفراقه نعم، وأَنِسُوا بوجوده قبل ذلك، لكنهم لم يتوقفوا عن الحياة، لم يكن تعلّقهم به تعلّق يمرض أبدًا!


وهنا ميزان العلاقات، الأمر أشبَه بكرسيّ له مقعد وأربعة أرجلٍ، فإن جعلت المقعد(العلاقات) 

وتوكأت واستندت بكلّك عليه فإنك حتمًا ستسقط معه عند سقوطه..


و إن كانت العلاقات هي إحدى أرجل الكرسيّ الذي يسندك ببعضه لا بكلّه، فلن تهوى وتسقط مع سقوطه، سيبقى يسندك السَند الذي توكأت عليه بكلّك، والسّند الوحيد الذي تتكئ عليه بأمان هُنا هو الله سبحانه وتعالى، ومتى حاولت الاتكاء الكامل على غيره سقطت، ومتى تعلّقت بغيره عُذّبت بما تعلّقت..


تخيّل معي موقف إبراهيم الخليل عليه السلام، تولد زوجه وهو ابن الست وثمانين سنة! رقّ جلده وكبر سنّه وربما اشتعل الرأس شيبًا!


وطالما طال انتظار ابنه وقرّة عينه إسماعيل عليه السلام، فلما أتاه تمكّن حبّه في قلبه وأخذ منه شعبة، أُمر بذبحه، ويفسّر لنا ذلك ابن القيم بلفتة لطيفة:


"ولم يكن المقصود ذبح الولد، 

ولكن المقصود ذبحه من قلبه ليخلص القلب للرب


وقرأت تعليق آسرني في وصفه للدكتور سليمان العبودي في هذا المعنى، يقول فيه:


"حينما تحبّ أحدًا من الناس فلا تخلق له في قلبك عجلًا جسدًا له خوار، فما أسرع أن يرجع موسى عقلِك لتدرك أن كل حبٍّ بشريّ يزيد عن حدوده فحقّه أن ينسف في اليمِّ نسفًا "!


وتأمل أيضًا قول رسولنا الكريم ﷺ في خطبته قبيل وفاته على المنبَر، وهو يحبّ أبا بكر حبٌ خاص به، فهو صديقه وأنيسه في الغار ومصدّقه..


ومع كلّ مناقبه ومكانته، إلا أنه قال:


"لو كنت متَّخِذًا خليلًا لاتَّخَذْتُ أبا بكرٍ خليلًا ولكنَّه أخي وصاحبي وقد اتَّخَذ اللهُ صاحبَكم خليلًا"


فلم يزاحم أحد في قلبه مع الله، وهذا ما ينبغي فالله هو المؤلّه في القلوب، لا يؤلَّه معه في الودّ أحد..


وكما يقول ابن القيم:

في القلب شعث لا يلمه إلا الإقبال على الله، وعليه وحشة لا يزيلها إلا الأنس به في خلوته، وفيه حزن، لا يذهبه إلا السرور بمعرفته وصدق معاملته، وفيه قلق: لا يسكنه إلا الاجتماع عليه والفرار منه إليه..”



فبقدر ما يؤخَذ من قلبك، يؤخَذ من فكرك ويومك ولحظتك، فتأمّل مدخلات نفسك، وروّضها


"وأحبب من شئت فإنك مفارقه"..

Join