أنثولوجيّا الجدار
يصرخ الضّابط الفرنسي المُثخن بالجراح:
- علينا الانسحاب!
بعدما أطاح بأسطورة نابليون على حجارة سور عكّا.. هناك حيث يقف الجدار وحده أبيٌّ شامخ، نسيم هادئ يتسرب من شقوق جدار برلين قُبيل أن يهوي ويغيّر وجه العالم.
الجدار.. يقف في كل اللحظات البشرية شاهدًا ومؤثرًا.
مفردة تولد كمًا هائلًا من المعاني المتماثلة والمتضادة في آنٍ واحد، فهي عتيقة وتستقر راسخةً في حقب تاريخنا الإنساني، قد يعني الجدار الخوف لهؤلاء، بينما الأمان لأولئك.
والعائق هنا، وربما هناك يعني النجاة؛ مفردة تتمدد بحمولاتها التاريخية، قد يظهر الجدار بصورةٍ دينيةٍ أو يتخذ من الأسطورة بُعدًا روحيًا، ويتبدى بصورة "المُشّكل" في الجغرافيا ويفرِّقنا في السياسة، ومن ثمّ يتجلى بصورة الموت المحتوم.
يقيس الجدار تطور الشعوب، فمنذ أكواخ القبائل البدائية، يُركِبنا طبقًا عن طبق ليفرّقنا مقامات بين الصفيح والقصور. وهكذا يُشيّد الجدار، ويتمدد حتى يُخال أنه المسؤول عن تشكيل وعينا وتاريخنا.
عرف الإنسان الجدار ربما حتى قبل أن يعرف اللغة، سَكَن الكهوف بجدران تؤمّن له الكنف والمأوى، شاهدةً على تطوره وحضارته وتاريخه؛ جدران عاصرت تغيراتنا وحروبنا ومآسينا، تبلَّلَت بدموعنا في أجزاءٍ منها وبدمائنا في أجزاءٍ أخرى، احتفظت بنقوشنا وتحملت مساميرنا.. من جدران الكهوف الحجرية إلى ناطحات السحاب الزجاجية، من إنسان الكهف الصياد إلى إنسان المكتب ذو الياقة البيضاء، كان الجدار شاهدًا على كل شيء.
"وقبل أن أبني حائطًا كان ينبغي أن أسأل
ما الذي أحيطه بالداخل أو أحيطه خارجًا!
ولمن كنت سأسبب الأذية.
هناك شيء ما لا يحبه الجدار
شيء يريد تحطيمه".
قصيدة "إصلاح الجدار" لفروست على خلفية قصته مع جاره الذي كان يردد أن الجدران الجيدة دائمًا تصنع جيرانًا جيدين، ولكن فروست كان يسخر بنصه العميق من حال جاره، بل ومن البشرية جمعاء، يسخر من اختيارهم للعزلة.
ثلاثة سجناء يقضون ليلتهم الأخيرة معًا وهم على درايةٍ بأمر إعدامهم في الصباح؛ يتصور أحدهم النهاية ويقول: "حسنًا سيكونون ثمانية.. ستأتيهم الصيحة: صوِّبوا على الهدف! وسأرى البنادق الثمانية مصوَّبة نحوي، أعتقد أني سأدخل الجدار، سأدفع الجدار بظهري بكل قواي والجدار يقاوم".
يُعدُّ الجدار في قصة سارتر رمزًا مهمًا وهو يلمح إلى عدة جدران أو حواجز، الجدار حيث سيقفون ويُطلق النار عليهم، هو الفاصل بين الحياة والموت، قصته كهذه جاءت لتسجيل موقف من الحرب الأهلية الأسبانية، جاعلاًّ من "الجدار" عنوانًا لها وجدارًا يحميه، ومتى ما شيَّدت السُّلطات القمعيّة جدران معتقليها، شيَّد أحرار العالم جدران مقاومتها، وها هو جدار لينون في براغ يقف مستذكرًا حقبة الثورة المخملية، عشرات الأغاني تغنيه، وعشرات الرسومات الغرافتية تتزين كنياشين على صدره، ويقف شاهدًا ومشعلًا حماسة التشيكيين ضد السلطات السوڤييتة.
طِفْلٌ يَكْتُبُ فَوْقَ جِدَارْ
طِفْلُ نَبَتَتْ بَيْنَ أَصَابِعِهِ النَّارْ
أيَّتُهَا الخُوذَاتُ البَيْضَاءُ حَذَارْ
مِنْ طِفْلٍ نَبَتَتْ بَيْنَ أَصَابِعِهِ النَّارْ
مِنْ طِفْلٍ يَكْتَبُ فَوْقَ جِدَارْ
يَكْتُبُ بَعْضَ الأَحْجَارْ
وَبَعْضَ الأشْجَارْ
وَبَعْضَ الأَشْعَارْ
غنتها أميمة الخليل عن جدار يحمل غضب طفلٍ فلسطيني ويمثل ثباته أمام ظلم الاحتلال. جدار يغضب وجدار يأوي وجدار يبثُّ المخاوف، الجدار يحمي عالم ر.ر مارتن في أغنية الجليد والنار، يصور لنا علاقة الذات والآخر، حالة النفي والإبعاد، ما خلف الجدران هم البرابرة، ولكن الجدران أقيمت لا لتحمي الناس من البرابرة، وإنما لتحميهم من المخاوف -التي يمكن أن تكون في كثير من الأحيان- أفظع وأسوأ من البرابرة المخربين.
وهكذا، فالجدران لا تشيَّد بسبب أولئك الذين يعيشون خارجها وتهدِّدهم كما هو متصوّر، بل لأولئك الذين هم في الداخل؛ فتلعب دورًا أيديولوجيًا في السيطرة على عقول الناس، بمعنى أن ما يُبنى ليس جدارًا بل حالة ذهنيّة، هي ذاتها الأسوار الهائلة التي بُنيت من أجل السيطرة على مصير البشريّة وحمايتهم من العمالقة في سلسلة إيساياما الخيالية.
"في عالم يسوده عدم اليقين والاضطراب، يعدُّ الجدار شيئًا يُعتمد عليه؛ هناك شيء يقف أمامك، ضخم، حازم، مطمئن، تأتي مع الجدران راحة عقلية وهدوء مهيب، بل ووعد غامض بالسعادة. بل أن وجود الجدران المطلق يعد ضمانًا من نوع ما، ففي النهاية، بوجود نظام وانضباط في العالم يشير الجدار إلى انتصار العقل الهندسي على الدوافع الفوضوية. ما الذي يمكن أن يكون أكبر من خط مستقيم يعبر الصحاري والغابات والأنهار السريعة والمدن الجامحة والمقاطعات غير الخاضعة للحكم؟ الخط المستقيم ليس فقط أقصر مسافة بين نقطتين، ولكنه أيضًا أرخص طريقة لبناء جدار".
إن الحياة تنشأ من الجدران، فوقها وداخلها، بل وحتى حولها. فقد وثق "وايدن" ملاحظةً مثيرة للفضول حول حياة ازدهرت وأعشبت على جانبي جدار برلين، نزهات تنظمها العائلات الألمانية تحت ظلال الجدران الوارفة، وعدّاؤون يستمتعون بالركض بمحاذاة الحاجز الخرساني، وسائقو الأجرة تضجرهم أسئلة السياح المتكررة عن الجدار.
منذُ فجر التاريخ والجدران تنمو كأسوار وسدود وتحصينات، تنمو كذاكرة ومناجاة وتقابلات زمنية ومكانيّة، جدران نسكنها وتسكننا وتحاكي سلامنا ومخاوفنا الكبرى، تحتل أذهاننا وتربكنا، تقف في طريقنا لتمنعنا من المضي أو لنتكئ عليها ونرتاح بعد المضي، جدار من جهة الشروق يشعّ بأسارير العائلة، وجدار من جهة الغروب يسند ظهر صديق في الزنزانة.