لدى الشعب الكوستاريكي جملة لاينفكون عن تكرارها: حياة نقية "Pura Vida"، هذه الجملة تستعمل في أي سياق، "-شكرا - حياة نقية"، "- كيف حالك؟ - حياة نقية"، إذا لم تعرف ما تقول، فقط قل حياة نقية والمحادثة تستمر. هذه الجملة تعكس نمط حياة وذهنية الشعب الكوستاريكي القريب من الطبيعة، كيف لا وكوستاريكا تحمل في طياتها أرض تحوي أنواع مختلفة من التضاريس التي تعطيها تنوعا فريدا، ففيها جبال، براكين، غابات مطرية وشواطئ سواء على المحيط الهادي أو البحر الكاريبي. أمضيت معظم وقت إقامتي في كوستاريكا على ساحلها الغربي على المحيط الهادي، بالإضافة إلى العاصمة وبعض المناطق الطبيعية الداخلية. هدف الرحلة كان التطوع في محمية للسلاحف البحرية في شاطئ هونكيال (Junqillal). في هذا التقرير أقدم نبذة عن كوستاريكا وعن تجربتي التطوعية في المحمية.

كوستاريكا

كوستاريكا دولة صغيرة في أمريكا الوسطى، يحدها من الشرق البحر الكاريبي ومن الغرب المحيط الهادي، من الشمال نيكاراغوا ومن الجنوب بنما. عدد سكان كوستاريكا 4.8 مليون وتعتبر السياحة والصادرات الزراعية (القهوة بشكل أساسي) من أهم روافد الاقتصاد الكوستاريكي. من المثير للاهتمام عن كوستاريكا هو اهتمامها بالبيئة، حيث تحتل مراكز متقدمة في مؤشرات الأداء البيئي، وهذا يعكس حرص كوستاريكا على الحفاظ على طبيعتها. كما تعد كوستاريكا من دول أمريكا اللاتينية الآمنة، حكومتها مستقرة والشعب يحظى بمستوى جيد من التعليم.

موقع كوستاريكا في الخريطة

التجربة التطوعية

هدف زيارتي لكوستاريكا كان التطوع في محمية السلاحف في مشروع فيردي أسول Verdiazul في شاطئ هونكيال. ترتيب الرحلة جاء عن طريق مؤسسة IVHQ والتي تتعاون مع مؤسسة Maximo Nivel في كوستاريكا لتنظيم شتى الفرص التطوعية للمهتمين في العمل التطوعي في كوستاريكا. مشروع فيردي أسول أقيم بالتعاون مع الجامعة الوطنية بكوستاريكا بهدف الحفاظ على ثلاثة أنواع من السلاحف البحرية من الانقراض، بعد تناقص أعدادها بسبب التلوث البحري والتغير المناخي. مدة تطوعي كانت أسبوعين خلال إجازة الشتاء الدراسية.

منحوتة السلحفاة الأم معلم شاطئ هونكيال/

منحوتة السلحفاة الأم، معلم شاطئ هونكيال

المكان

مشروع فيردي أسول قائم في مركز صغير بجانب شاطئ هونكيال، المركز مصمم بشكل بسيط وباستعمال موارد محلية وطبيعية، لا يوجد بالمركز أي تكييف والصالة الرئيسية فيه بسيطة ومفتوحة. يحوي المركز مطبخا وأربع غرف للمتطوعين والعاملين ، في كل غرفة عدة أسرة طبقية. بالإضافة إلى المركز توجد حاضنة السلاحف، وهي عبارة عن مساحة مسيجة ومظللة في الشاطئ لتحوي حوالي 60 عشا للسلاحف. هدف المركز هو الحفاظ على أنواع السلاحف من المفترسات كالكلاب أو من الصيادين من البشر، حيث يقوم بعض السكان المحليين بنبش البيض من عشه لبيعه حيث يوجد بعض الاعتقادات عن أكل بيض السلاحف.

نقطة التجمع داخل مركز المشروع

حاضنة السلاحف من الخارج

حاضنة السلاحف من الداخل

العمل

العمل الأساسي في فيردي أسول هو الحفاظ على السلاحف البحرية التي تتخذ من شاطئ هونكيال مركزا لوضع البيض. الهدف هذا يتفرع منه مهمتين أساسيتين، الجولات الليلية في الشاطئ لردع الصيادين ولإنقاذ بيض السلاحف فور وضعه (تمتد الجولات لحوالي 6 كيلومترات)، حيث تقوم السلاحف البالغات بالقدوم للشاطئ في الليل وحفر العش لوضع البيض، مهمة الجولات الليلية هي إيجاد هذه الأعشاش عن طريق البحث عن آثار الأمهات التي تتركها السلاحف عند دخولها الشاطئ من المحيط. يقوم الجوالة بحفر العش وأخذ البيض للحاضنة، ليتم حضانته في ظروف مقاربة للظروف الطبيعية بحيث يكون محميا من المفترسات والصيادين، وأيضا يتم تظليله لحمايته من درجات الحرارة المرتفعة. المهمة الثانية هي صيانة الحاضنة، وهنا يكمن مربط الفرس من ناحية العمل المضني، حيث يلزم تغيير أي عش بعد أن يفقس البيض فيه وتغيير رمله، لأن الرمل قد يحوي بكتيريا قد تضر بالبيض الجديد، فيتم حفر كل عش تم فقس البيض بداخله، إخراج كل بقايا البيض وأي سلاحف صغيرة، ثم يتم تنظيفه وتغيير الرمل بداخله. تغيير الأعشاش يبدو أسهل مما هو في الواقع، حيث يأخذ تجديد العش الواحد قرابة الساعة والنصف، تشمل حفره وإخراج مافيه، ثم جلب رمل نظيف من الشاطئ لملئه، وهذا كله يشمل حرفيا حمل أدلاء مليئة بالرمل من وإلى الحاضنة في عز الظهر.

تنظيف سلال الأعشاش

المركز لا يكتفي فقط بهاتين المهمتين، بل يقوم أيضا بالحفاظ على البيئة المحيطة، حيث يقوم العاملين والمتطوعين بالذهاب لمراكز القمامة لفصل المواد القابلة للتدوير ليتم تدويرها، كما أيضا يقوم المركز بزراعة أشجار للحفاظ على نوع أشجار المانغروف في المنطقة. أعمال أخرى تشمل وضع لوحات لكل أصناف الأشجار عندها، وهذا العمل تضمن خلط اسمنت قام به محدثكم لاستعماله كأساس لهذه اللوح. يقوم المركز أيضا بالتوعية بأهمية الحفاظ على البيئة المحلية، عن طريق تسويق عمليات إطلاق السلاحف للمحيط، حيث يحظى هذا النشاط بحضور بعض السكان المحليين والسياح مقابل التبرع للمركز، ويعتبر هذا النشاط جوهرة التاج في عمليات المركز.

الناس

العاملين في المركز على ثلاثة أنواع: النوع الأول هم السكان المحليين، وهؤلاء يعملون في المركز باستمرار وعلى مدى طويل، كما يشمل هذا النوع طلاب الجامعة الوطنية الذين يقومون بعمل بعض الأبحاث في المركز. النوع الثاني هم المتطوعون على المدى القصير، مثلي، ويكون هدفهم عادة السياحة والتعرف على الطبيعة ومساعدة المشروع بشكل بسيط وسريع. النوع الثالث هم المتطوعون على المدى الطويل، عدة شهور إلى سنوات. النوع الأخير مثير للاهتمام، فعادة ما يكونون أشخاص يرغبون في الابتعاد عن حياتهم في أوطانهم، إما لمشاكل عائلية، أو بسبب عدم وضوح المستقبل بعد التخرج، فيكون التطوع فرصة للهروب من الواقع وفي نفس الوقت أداء عمل له تأثير نافع ومباشر على الحيوانات والطبيعة. الالتقاء مع هؤلاء الأشخاص يعتبر تجربة بحد ذاته، ففي قصصهم توجد بعض العبر.

الانطباع

تجربة التطوع في هونكيال كانت مثرية من نواحي عدة. العيش في قلب الطبيعة الشاطئية ومقابلة الكثير من الأصدقاء الجدد الذين يشاركونك في نفس الحماس للحفاظ على الحياة هو شعور رائع. المشي ليلا في الجولات التفقدية والاستماع لهدير الموج تحت لمعان نجوم السماء هي تجربة يندر لها مثيل. وصلت في بداية الشهر الهجري وكانت فرصة رائعة للتحديق في سماء مرصعة بالنجوم، رأيت درب التبانة لأول مرة في حياتي، ولم أمل من رؤية الشهب بشكل مستمر، تتوج الجولات حينما نجد السلحفاة الأم تحبو في دخولها للشاطئ، ثم تقوم بالحفر لوضع بيضها. أحيانا لا تجد مكانا مناسبا وتمضي عدة محاولات في الحفر وأحيانا تعود أدراجها دون وضع البيض. بعد أن نجد العش نقوم بأخذ البيض للحاضنة حيث نضعه في أحد الأعشاش التي تم تنظيفها. الجولات الليلية كانت هي المهمة المسائية، أما المهام النهارية فتنوعت، لكنها بشكل رئيسي كانت صيانة الحاضنة. عادة ما تكون الأعمال النهارية ما بين الساعة 2-5 مساء. أول مهامي النهارية كانت الذهاب لمركز القمامة وفتح كل الأكياس هناك ثم تصنيف المحتويات حسب موادها، البلاستيك لوحده والعلب المعدنية لوحدها والزجاجية كذلك. العمل بشكل مباشر على تصنيف القمامة أعطاني الشعور بأهمية تصنيف القمامة على المستوى الفردي قبل رميها، حيث لا يعدل درس مثل العمل تحت الشمس في تصنيف القمامة لإدراك أهمية خلط قمامتي حين لا أكترث بتصنيفها في منزلي. كما وضعني في نفس موضع عامل النظافة الذي يعمل تحت الشمس الحارقة لتنظيف شوارعنا وجعلني أشعر بمدى التعب الذي يقاسونه لتنظيف مخلفاتنا. ثاني مهامي كانت في أخذ بعض اللوح التي تحمل أسماء أنواع الأشجار ونصبها أمام كل نوع. قمنا بخلط اسمنت ورمل وحصى لتكوين الأساس لهذه اللوح. كان عملا مضنيا لكنه لا شعور يعدل أخذ استراحة وقطف جوز الهند الطازج وشرب مائه.

تركيب اللوحات الإرشادية

العمل النهاري الأساسي كان صيانة الحاضنة، سواء صيانة الهيكل أو صيانة الأعشاش. صيانة الهيكل اشتملت خلال إقامتي على جذب جذع شجرة لاستعماله كركن للمظلة، أيضا كان باب الحاضنة مخلوعا فاضطررنا لإصلاحه. صيانة الأعشاش هي العملية الأساسية، حيث يجب تنظيف كل عش بعد أن يفقس البيض داخله وتهيئته للبيض الجديد، وكل نوع من السلاحف يتطلب عمقا مختلفا للعش قد يصل إلى المتر في حالة سلحفاة الليذرباك (Leatherback). أعمال صيانة الحاضنة كانت اختبارا للتحمل واللياقة، حيث قمنا مثلا بحمل جذع شجرة يصل طوله لثلاث أو أربع أمتار لمسافة تمتد لحوالي 600 متر. صيانة الأعشاش يتطلب حمل العديد من الدلاء المليئة بالرمل تحت شمس الظهيرة. لكن يزول التعب عند الغطس في المحيط البارد وقت الغروب. هذه التجربة أعطتني انطباعا عن ما يقاسيه من يعمل في أعمال شاقة بشكل يومي، سواء من عمال نظافة أو بناء وغيرها. لكن أهم عملية هي عملية إطلاق صغار السلاحف للمحيط بعد خروجها من عشها، مشكلة مشهدا ملهما. هذه السلاحف التي شقت طريقها من باطن العش بعد خروجها من البيضة تراها تتسابق نحو المحيط، خاطة مسارات صغيرة تمثل تعبيرا مجازيا وحرفيا عن السباق نحو الحياة.

سباق صغار السلاحف إلى المحيط

سلحفاة الليذرباك العملاقة أثناء وضعها لبيضها، وجدناها خلال الجولات الليلية

خاتمة

العيش في مكان ريفي محاط بالطبيعة له شعور خاص، القرب من الطبيعة والبعد عن حياة المدينة وضوضائها يعطي راحة للنفس، حيث تكون الحياة على رتم أبطأ ومستوى التوقعات منخفض. مثل هذه التجارب تعطينا الفرصة بأن نتأمل في الطبيعة حولنا وأن نضع مكاننا مكان الناس الذين يعملون بجهد في مهام بسيطة ويدوية، بالإضافة إلى إخراجنا من محيطنا المعتاد. خضت هذه التجربة حينما كنت طالب هندسة وكان كل شيء في هذه التجربة مختلفا عما أواجهه في حياتي اليومية كطالب أو كمهندس، وهذا يجعلنا نأخذ خطوة للخلف وننظر إلى الحياة من منظور أوسع.