التأمين الاختياري
متى لا يكون تأميناً
ترددت كثيراً قبل البداية في كتابة هذه التدوينة - وبقيت كمسودة بعد كتابتها لمدة 3 أشهر - لعدة أسباب:
لم أعتد التدوين في مجال العمل وتدويناتي السابقة كانت شخصية في مدونتي الخاصة Sheneamer.com
لي تجربة سابقة في التدوين في مجال العمل على لينكد-إن قابلها سيل من الانتقادات بسبب تحسس القطاع الذي كتبت عنه وبعضها وصل كشكاوى لمشرعي قطاع التأمين وتم تفسيرها على أنها سياسة الشركة التي أعمل بها بدلاً من كونها رأي شخصي وقمت بحذفها لاحقاً لعدم إساءة تفسيرها.
التدوين يطلب التزاماً للاستمرار وهذا قد لا يتوفر لي دائماً.
مع هذا قررت خوض هذه التجربة ولكن لا أعد بالاستمرارية بل سوف أتحيّن الفرص ولا أحدد مواعيداً ثابتة للتدوينات القادمة ومنها أضع لنفسي خط رجعة إذا وجدت أن طرحي غير ذي فائدة.
لذا فكرت أن يكون تدويني في المجال العملي هو للتثقيف وبناء المعرفة عن التأمين الصحي ومناقشة تحديات السوق ككل لعل أن يكون في ذلك عمومية تبعدها عن أي حساسيات سواء من اللاعبين في القطاع من شركات التأمين أو مزودي الخدمات أو الوسطاء والوكلاء أو مشرعين.
سوق التأمين الصحي في المملكة رغم حجمه الكبير الذي تجاوز ١٩ مليار بنهاية ٢٠١٧م إلا أنه لم يصل لمرحلة النضج بعد - لحداثة التجربة نسبياً ولشمولية التغطيات التي حدت من الفرصة للتفريق بين المنتجات التي تقدمها أغلب الشركات. بالإضافة لذلك فإن التأمين الصحي وقطاع التأمين ككل غير مخدوم إعلامياً بل ينظر له على أنه الغول الذي يمتص جيوب الناس وبين فترة وأخرى تشن بعض الصحف أو كتابها حملات تزيد الطين بلّة وتوسع الفجوة ويجعل التعاطي معه بعاطفة غالباً.
في كل تدوينة سوف أحاول تحديد موضوع ونقطة لتغطيتها ولعل في ملاحظاتكم وتعليقاتكم ما يثري الموضوع ويبين وجهات النظر المختلفة.
سوف أتحدث اليوم عن شكوى تتكرر دائماً في وسائل الإعلام الاجتماعي خصوصاً والتقليدي عموماً وهي: لماذا إذا أراد المواطن - من موظفي القطاع العام - شراء تأمين صحي له ولعائلته يجده "غالياً" وهذا يجعله يتهم شركات التأمين بعد الرغبة في توفير تأمين صحي له ولعائلته بينما "الوافد" يستطيع الحصول على التأمين الصحي بنصف السعر ويعتبر ذلك تفرقة ضد المواطن.
سوف أبدأ بطرح أسئلة أولاً ثم أتطرق لها تباعاً:
لماذا يفكر الشخص في شراء التأمين الصحي له ولعائلته الآن فقط؟
كيف يعرف أن سعر التأمين على المقيم نصف سعر التأمين على المواطن؟
لماذا المقيم يحصل على التأمين بشكل فردي بينما يشترط أن يؤمن المواطن على جميع أفراد العائلة؟
ماهو السعر الذي "يراه" مناسباً ولماذا يعتقد ذلك؟
هل يرغب بالاستمرار مستقبلاً ويقوم بتجديد التأمين الصحي سنوياً؟
نقاش السؤال الأول:
أغلب من تناقشت معهم من الأصدقاء أو في وسائل الإعلام الاجتماعي تكون إجابتهم على السؤال الأول بأن لديه - أو لدى أحد أفراد أسرته - عارض صحي ويعتقد أنه سوف يكلفه كثيراً إذا استمر بدفع مقابل العلاج نقداً. أو أن زوجته حملت ويرغب بالحصول على التأمين الصحي لكي تستخدمه خلال المراجعة والولادة في مستشفيات القطاع الخاص.
في هذه الحالة، الشخص فعلياً لا يرغب بـ"تأمين صحي" بل يبحث عن شركة تأمين تقوم بتحمل التكاليف المتحققة نيابة عنه. هذا ليس تأميناً صحياً. التأمين يقوم على مبدأ المخاطر "المحتملة" أي التي لم تقع بعد أو يحتمل وقوعها وليس على مبدأ تغطية المخاطر "المتحققة" التي هي واقعة لا محالة “بعد اكتشافها”.
شركات التأمين تطلب تعبئة نماذج إفصاح عن الوضع الصحي الحالي قبل التأمين وأكثر من ٩٥٪ من الذين يقوم بالتعبئة ويفصحون عن تلك الحالات لا يشترون التأمين الصحي بعد ذلك بسبب ارتفاع التكلفة لكون المخاطر المحققة أو شبه المحققة واردة لا محالة ويتم إضافة تكلفتها المتوقعة. البحث عن تأمين صحي بعد اكتشاف حالة طبية مكلفة ليس تأميناً بل "توريطاً" لشركة التأمين الصحي.
التأمين “لا يعتبر” تأميناً “بعد” تحقق المخاطر
نقاش السؤال الثاني:
أما بخصوص أن تكلفة التأمين الصحي للوافد أقل بكثير من تكلفة التأمين الصحي للعائلة السعودية في حال التأمين اختيارياً فهي صحيحة كمعلومة ولكن فات على الكثير أن التأمين الصحي الإلزامي لا يفرق بين وافد ومواطن في التسعير ذلك أن رب العمل هو من يتكفل به ولذلك حتى أنا وأنا أعمل بشركة تأمين صحي لا أعرف يقيناً كم “تكلفتي” لأن الشركة هي من يدفع ذلك. لماذا تنخفض تكلفة التأمين الإلزامي عن الإختياري؟ بكل بساطة: توزيع المخاطر على عدد كبير يقللها فالتأمين الإلزامي يشمل الصغير (أفراد عائلة الموظف) والكبير والصحيح والمريض ومع ذلك فهوامش الربحية لدى شركات التأمين اليوم تتراوح بين الخسارة أو هامش ربح صافي لا يزديد على 7% مقابل التزامها بتحمل مخاطر بالمليارات.
بلغ متوسط القسط التأميني المكتسب في عام 2017م 1,527 ريالاً للشخص بينما كان متوسط المطالبات المدفوعة 1,339 ريالاً للشخص بهامش ربح “إجمالي” 12.4%
نقاش السؤال الثالث:
سبب إصرار شركات التأمين شمول “جميع” أفراد العائلة بالتأمين الاختياري هدفه بكل بساطة اختبار “هدف” المؤمن له من طلب التأمين فلو كان بسبب وجود حالة طبية لدى فرد واحد فقط سوف يتردد في التأمين على جميع أفراد الأسرة فليس من المنطق أن أرغب بالتأمين الصحي على أحد أبنائي بالاسم وأترك بقية أفراد أسرتي بدون تأمين صحي! فهل لأني لا أهتم بالبقية؟ هل لأني لا أحبهم بنفس القدر؟ في الغالب - عن خبرة وتجربة - يكون السبب أنه هذا الشخص هو من أحتاج علاجه حالياً!
الانتقائية في التأمين صحي تؤثر على عدالة توزيع المخاطر
نقاش السؤال الرابع:
ماهو السعر المناسب؟ لو تم التأمين على جميع المواطنين لما زاد السعر عن المتوسط الذي ذكرته سابقاً إلا بقدر نوعية المستشفيات التي تشملها شبكة مزودي الخدمات الصحية. قبل عام قامت إحدى شركات التأمين بتقديم عرض “مغرٍ” لمنسوبي وزارة التعليم من المعلمين والمعلمات. سبب حكمي عليه بأنه مغرٍ لعدة لسببين، الأول السعر الذي كان في أعلى فئاته 1,980 ريالاً للموظف/الموظفة العزباء/الأبناء (165 ريال شهرياً) و 4,248 ريالاً للزوجة (بسبب مخاطر وتكاليف الحمل والولادة) وفي أدنى فئاته 759 ريالاً للموظف/الموظفة العزباء/الأبناء (63.25 ريال شهريا) و 2,603 ريالاً للزوجة. السبب الثاني أنه يتم استقطاعه على أقساط شهرية مما يعني تحمل الشركة لتكاليف التمويل حيث أنها ملزمة بالتغطية لحد نصف مليون ريال للشخص من اليوم الأول. عدد منسوبي التعليم وعوائلهم يزيد على 2.5 مليون نسمة ومع ذلك فعدد من اشترك في التأمين الصحي لا يتجاوز 50 ألفاً في أحسن التقديرات - لا يوجد رقم رسمي معلن - وانتهى بعدم قيام تلك الشركة بتجديده بسبب أن أغلب من اشترك كانت لديهم حالات صحية أو حالات حمل وولادة ولم يستقطب الغالبية من الأصحاء وإلا لتم تجديده وعمت الفائدة عدداً كبيراً.
بنظري، تكاليف فواتير شركات الاتصالات لأي أسرة سعودية شهرياً قد تزيد على هذه المبلغ ومع هذا رأى الكثير أن التأمين على صحتهم مكلفاً بعكس تكلفة الحصول على خدمات الجوال.
بلغت إيرادات شركات الاتصالات خلال عام 2017م 18.9 مليار ريال بمعدل شهري 52.50 ريال لكل شخص في السعودية البالغ تعداد سكانها 30 مليوناً بمافيهم العمالة
نقاش السؤال الخامس:
مبدأ التأمين - سواء للسيارة أو التأمين الصحي - يتعارض مع الرغبة البشرية أحياناً. فلو قمت بالتأمين على سيارتك أو بالتأمين الصحي ولم تتعرض لحادث أو لمرض خلال فترة التأمين “لندمت” على دفع ذلك المبلغ كونك لم تستفد منه مع أنك في نفس الوقت لا تتمنى أن تتعرض لحادث أو أن تمرض. السبب يمكن في نظرتنا للتأمين على أنه “تكلفة” وليس على أنه “راحة بال” لذا أغلب من يقوم بالتأمين الصحي ولم يذهب لمستشفى أو ذهب مرة أو مرتين لعلاج بسيط لا يوازي ماقام بدفعه للتأمين، غالباً لا يقوم بالتجديد ومن يقوم بالتأمين على سيارته، يقوم بذلك مرغماً لتجديد رخصة السير أو السيارة ولهذا فإن 50% من السيارات التي نراها في الشارع اليوم تسير بدون تأمين ومن يقوم بالتأمين مرغماً يبحث عن أرخص تأمين لطرف ثالث.
عدم التجديد بسبب عدم استخدامك للتأمين يعني أن المستمرين في التأمين الصحي هم دائماً ممن لديهم حالات صحية وهذا سوف يرفع التكلفة عليهم - وعليك إذا رغبت مستقبلاً بالتأمين - بشكل سنوي مع أنك لا تضمن أنك لن تتعرض أنت أو أحد أفراد اسرتك لحالات صحية مكلفة مستقبلاً.
أتفهم أن وجود مستشفيات حكومية توفر العلاج المجاني للمواطنين هو سبب مهم في عدم قيامهم بشراء تأمين صحي لهم ولأسرهم - بغض النظر مهما انخفضت التكلفة - ومع هذا فقد تم دفع 16 مليار ريال نقداً للعلاج في مستشفيات القطاع الخاص عام 2016م مقابل 14 مليار دفعتها شركات التأمين لعلاج 12 مليون شخص من المؤمن لهم خلال نفس الفترة.
قمت بالتأمين ولم استفد منه خلال العام، لن أجدد!
أليست “راحة البال” فائدة بحد ذاتها؟