الفرق بين زغرب وسبليت .. بوبان رمز وطني وأكثر من مجرد لاعب كرة قدم .. كرانيكار أصبح في عداد الموتى بعد انتقاله ..
انها سبليت .. جنوب العاصمة الكرواتية زغرب .. ترى شواطئها مشابهة لما هناك التي في جنوب فرنسا وتدعى الريفيرا الفرنسية .. سوف ترى اليخوت باهظة الثمن على ضفاف الشاطىء الساطع من ضوء الشمس .. سوف ترى اشجار النخيل المحاذية لمقاهي القهوة وذلك الشارع الطويل الذي يسير فيه السياح والمواطنون لقضاء يومهم بكل اريحية .. وفي ليلة مباراة نادي المدينة هايدوك سترى المشجعون يرتدون قمصان الفريق دعما له خاصة لو كانت امام الخصم التاريخي دينامو زغرب ..
قطبي الدولة دينامو زغرب وهايدوك سبليت كانوا يجتمعون على حب ووئام واجواء ممتعة قبل انفصال كرواتيا عن يوغوسلافيا في بداية التسعينات الميلادية .. وكان مشجعي الفريقين يتحدون سويا اذا لعب الفريقين امام خصم من صربيا وبالتحديد من بلقراد والاغلب انه يكون النجم الاحمر .. كان الديربي بين دينامو وهايدوك يعبر عن اللحمة الكرواتية شديدة الانتماء للوطن والرغبة الجامحة بالاستقلال من التحكم الصربي ..
لم اتكلم عن العاصمة زغرب في البداية لانها اكثر شهرة ومعرفة حول العالم من المدينة الساحلية الرائعة سبليت .. التي تملك الفريق الثاني في الدولة المستقلة حديثا من اليوغسلاف .. ففي زيارة للنجم الاحمر الصربي للمدينة ليلعب امام هايدوك سبليت كان فائزا بنتيجة 2-0 .. حتى آخر عشر دقايق من المباراة بدأ الجمهور الكرواتي برمي العلب الفارغة وتكسير كراسي الملعب حزنا على النتيجة التي تملك ابعاد ليست رياضية فقط وانما سياسية وعرقية ووطنية .. وهذا مايصفه اللاعب آنذاك "سلافين بيليتش" .. لكن زيارة النجم الاحمر الى العاصمة زغرب لم تكن مثل زيارته الى سبليت .. هناك تغير كل شيء وحصل حدث سيخلد بتاريخ البلدين سياسيا ورياضيا ..
انها الركلة التي أدخلت "زفونمير بوبان" التاريخ وصنعت منه تمثالا ورمزا تاريخيا للحرية والانتفاضة الكرواتية .. بسبب تصرفه في يوم 13 مايو من عام 1990 .. كانت الاحداث تشير الى نهاية تفكك العصر اليوغسلافي وقبل الحادثة باسبوعين تم تنصيب رئيس كرواتيا الجديد "تودجمان" الذي تعهد بقيادة الجمهورية الى الاستقلال الفوري .. لقد بدى ان العنف خيار لا بد منه بين فريق من صربيا وآخر من كرواتيا .. وتقول الأحداث ان بدأ بالشغب هو جمهور الفريق الصربي الذي قام بإلقاء المقاعد على ارض الملعب .. وحين لم يتفاعل افراد الشرطة مع شغب الجمهور الصربي .. رد الجمهور الكرواتي بطريقته واندلعت احداث شغب بين الجمهورين في المدرجات ولاحقا انتقلت الى ارض الملعب ..
في وسط هذه الفوضى كان احد مشجعي دينامو زغرب على الارض ملقيا ويتعرض للضرب من قبل رجل شرطة .. حينها اندفع "بوبان" ليركله بلقطة تم توثيقها على التلفاز وبالكاميرات لتبقى لحظة اسطورية تاريخية يراها الشعب الكرواتي بداية اندلاع مبدأ الحرية لشعب تعرض للكثير من المضايقات الصربية لعقود من الزمن .. يراها "بوبان" افضل شيء فعله في مسيرته الشخصية وانه فعل مايتوجب فعله في ذلك الوقت .. لم يكن يتقبل ان يرى شخص كرواتي يتعرض للضرب من شرطي يوغوسلافي .. بسبب الحادثة تم ايقاف "بوبان" عن اللعب لمدة 6 اشهر وحرم من الانضمام للمنتخب اليوغوسلافي المشارك في مونديال ايطاليا لعام 1990 ..
يقول "بوبان" :- أنا رجل ينتمي الى الشعب .. تصرفت على طبيعتي وغير نادم على الاطلاق لذلك التصرف .. هناك قرابة 3 آلاف شخص قاموا بأعمال الشغب لكنهم فقط ارادوا التركيز على فعلتي لانني اللاعب الذي يحمل رقم 10 في الفريق .. أنا تأسف بالطبع لذلك الشرطي لكنني سأعيد نفس التصرف لو عاد بي الزمن الى الوراء بنفس الحادثة ..
يصف "بوبان" بأن افضل لحظة في مسيرته الرياضية داخل الملعب كانت مع البلد الذي انفصلت بلاده عنه .. حيث يقول ان لحظة تسديده لركلة الترجيح الحاسمة في نهائي مونديال الشباب في تشيلي 1987 امام المانيا الغربية كانت افضل لحظة بمسيرته على الاطلاق .. حيث بعد تسجيله للركلة اصبحت يوغوسلافيا بطلة للعالم وبقيادة "بوبان" .. حينها ركض كالمجنون نحو الجمهور ليكتب انجاز تاريخي بمسيرة بلده ومسيرته الشخصية ..
قبل ركلة "بوبان" الشهيرة بعقد من الزمن بدأت الامور في يوغوسلافيا بالتدهور الامني بسبب وفاة المارشال الكبير "جوزيف تيتو" .. فهو القائد الذي أنشأ وأدار البلاد طوال فترة طويلة مرسياً الامن والنظام الصارم والتعايش السلمي داخل المقاطعات العديدة رغم مطالباتهم بالاستقلال على استحياء مثل الجبل الاسود وكرواتيا والبوسنة وسلوفينيا .. حينما توفى في عام 1980 وبعمر وصل الى 88 عام تمت اذاعة وفاته على الراديو في يوم الاحد بينما احد ابرز اللحظات التي شهدتها الرياضة في البلاد هي اعلان وفاته خلال احد مباريات الدوري اليوغسلافي بين فريقي كاراباخ وهايدوك سبليت ..
من وفاته بدأت الحملات الاستقلالية بالدول التي تسيطر عليها يوغوسلافيا وبسبب ركلة "بوبان" الشهيرة الكثير يرى انها كانت بداية اندلاع شرارة الانطلاقة نحو الحرية في كرواتيا .. وهذا مايجعله ليس فقط بلاعب ممتاز وانما رمز وطني للقومية والحرية لكن بفضل فعلته آنذاك فهو أخذ الامور الى منحنى آخر لانها اتت من لاعب ذو شعبية جارفة حينها .. ظهر بعدها "بوبان" في فيلم وثائقي يقول فيه ان الجمهور الصربي هو من بدأ بأحداث الشغب لانه يضمن ان الشرطة اليوغسلافية لن تعاقبهم وهو ماتسبب حينها باستمرار القتال بين الجماهير ..
اثارت تلك الركلة نظر الكثير من اندية اوروبا .. بالرغم من كونه معروفا لديهم حينما فاز بالمونديال مع يوغوسلافيا قبل ثلاثة اعوام وبالاضافة لقدرته المتنوعة باللعب وموهبته الكبيرة .. لكن العروض الحقيقية اتت بعد هذا الحدث التاريخي وحينها فضل الكالتشيو لينتقل الى ميلان بقيمة 8 ملايين جنيه استرليني ويعار حالاً الى باري ليكمل الموسم معهم ثم يعود الى الميلانيللو بقيادة "فابيو كابيلو" ويبدأ مسيرته المبهرة مع اللومباردي مع كبار اللاعبين آنذاك امثال "رود خوليت وديميتريو البيرتيني وروبرتو دونادوني" ..
لم يبدأ "بوبان" اساسي مع فريقه الجديد لكنه رغم ذلك كان يتطور ويتحسن بمرور الوقت ولاحقاً كوّن ثنائية تاريخية مع "البريتيني" في خط الوسط تميزت بالقوة والصلابة واظهرت ما تعكسه الفكرة الايطالية لكرة القدم بالقوة الدفاعية التي تبدأ من وسط الملعب .. ليكتب التاريخ مع ميلان لمدة عقد كامل من الزمن حقق فيه الكالتشيو اربع مرات آخرها كان في عام 1999 وهو الاكثر تميزاً كونه كان قائداً للفريق .. وفاز بدوري ابطال اوروبا امام فريق الاحلام التاريخي لبرشلونة بقيادة "يوهان كرويف" بليلة اثينا الخالدة ..
وبنهاية التسعينات وبداية الالفية ورغم ما عاشه "بوبان" طوال هذه الفترة من صعود وهبوط وافراح واحزان الا انه بدأ القرن الجديد بطريقة مختلفة تماما عما بدأها في التسعينات الماضية حينما كانت بلاده في حالة عدم استقرار امني وحادثة الشرطي وبعدها الحرب الاستقلالية مع صربيا .. ليختم مسيرته بطريقة مميزة بالملاعب الايطالية ويغادرها كأحد ابرز لاعبي الوسط الذين مروا على الكالتشيو .. وبالنظر لمسيرته الدولية فقد حقق المركز الثالث في مونديال فرنسا 1998 وهو كان اعظم انجاز تسجله كرواتيا قبل ان تحرز المركز الثاني في مونديال روسيا 2018 .. وكان هو القائد وحامل الرقم 10 في ذلك المنتخب التاريخي مع "دافور شوكر وبروزينسكي وازانوفيتش وبيليتش" ..
اتجه "بوبان" بعد اعتزاله الكروي الى معاودة دراسة التاريخ في المسيحية خلال الامبراطورية الرومانية .. وهو لا يزال وجه بارز بالاعلام الرياضي الايطالي ويملك عمود اسبوعي في اشهر صحيفة ايطالية حاليا وهي لاقازيتا ديللو سبورت ويظهر بشكل متواصل بقنوات سكاي الايطالية لتحليل الكالتشيو ودوري ابطال اوروبا .. فهو رجل لا يخاف من اعلان مشاعره وما يفكر فيه للملأ دون تردد ..
بالعودة الى الصراع الازلي بين زغرب وسبليت .. نجد ان الاحتقان بين مواطني المدينتين لا يمكن حصره فيقول احد الصحفيين المولودين في ان الضرائب التي يدفعها وهو يعيش في سبليت ومن مواليدها تذهب مباشرة الى سبليت دون رفع مستوى المعيشة والرفاهية فيها كما هو موجود في العاصمة زغرب .. حينما تريد التعليم الممتاز يجب ان تنتقل للعيش في زغرب وحينما تريد الوظيفة الجيدة يجب عليك الانتقال للعيش في زغرب .. لقد اصبحت كرواتيا مستقلة بعد صربيا لكن الحكم الشيوعي والسيطرة المركزية انتقلت من بلقراد الى زغرب ..
يكمل الصحفي انه خلال بطولة العالم الشاطئية للنساء لكرة الطائرة .. لم تقيم الحكومة اي مباراة في البطولة في مدينة سبليت الساحلية والمشهورة بشواطئها الجميلة .. بل اتت واخذت رمل الشاطىء ونقلته الى العاصمة زغرب واقامت البطولة هناك .. بالاضافة الى ان المنتخب الكرواتي الاول لكرة القدم لا يلعب على الاطلاق خارج العاصمة زغرب منذ عام 1997 بحجة ان اللاعبين يفضلون اللعب بالعاصمة .. ورغم المطالبات العديدة من سكان سبليت برؤية المنتخب في ملعب هايدوك تحققت أخيراً لكن الحضور كان قليل للغاية وبقرابة 12 الف مشجع في ملعب يتسع الى 35 الف و في مباراة ودية امام المانيا قبل انطلاق يورو 2004 ..
بينما يقول صحفي آخر من مواليد العاصمة زغرب انه يوجد بينهم قول مأثور ومعروف وهو انه عندما تمطر في سبليت فإن الملام الاول هي العاصمة زغرب .. ان العاصمة تشبه كثيرا مدن اوروبا الكبيرة الفعالة التي تريد العمل والنشاط بينما سبليت تعكس نظرة اهلها وهي التميز بالكسل واللامبالاة .. يقول "سلافين بيليتش" وهو مدرب المنتخب السابق ومدرب نادي الاتحاد السعودي .. ان العيش في زغرب والعيش في سبليت مختلف تماما .. فالعاصمة تشبه تماما لندن .. مزدحمة ولا يمكنك رؤية اصدقائك لمدة اسبوع .. بينما في سبليت كنت اعيش على الشاطىء وارى اصدقائي لثلاث او اربع مرات في اليوم الواحد ويستغرق طريقي اليهم ست دقائق فقط ..
كثيراً ما كان دينامو زغرب الوجهة الدائمة لابرز اللاعبين من هايدوك سبليت كونه النادي الاكثر ثراء من الناحية المالية والاكثر شعبية في البلاد .. ومن النادر ان يحدث العكس وهو انتقال لاعب من دينامو زغرب الى هايدوك سبليت .. لكن "نيكو كرانيكار" فعلها رغم انه ابن النادي والذي ترعرع في كل فئاته السنية حتى صعوده للفريق الاول .. فبعد انتقاله الذي صدم جمهور دينامو قاموا بوضع علامة خارج منزله تعني انه انتهى بالنسبة اليهم وانه في تعداد الموتى ..
من الصعب ادراك مدى الفعل الشنيع بنظر مشجعي دينامو بعد انتقال "كرانيكار" الى عدوهم الازلي .. فهو لم يصبح آمنا خلال مسيره في شوارع زغرب .. رغم قوله لاحقاً انه لديه ما يبرر انتقاله وانه كان يعيش فترة سيئة مع ناديه دينامو وان انتقاله لخارج كرواتيا سيفسد خطط استقراره قبل بداية مونديال المانيا ..
عندما خسر هايدوك سبليت مباراتي تصفيات التأهل الى دوري ابطال اوروبا في موسم 2004-2005 امام شيلبورن الايرلندي .. اقتحمت رابطة النادي مقر التمارين وحفرت بالملعب تشكيلة 4-4-2 من القبور ووضعت لافتة بينها تقول فيها ( حققوا لقب الدوري او ستكونون اموات ) ..
يطلق على التراس نادي دينامو زغرب لقب ( BAD BLUE BOYS ) وهو يرمز الى فيلم انتج في الثمانينات بعام 1983 وتم انشاء الرابطة في عام 1986 .. وهي مجموعة مشجعين تحصل على تعاطف ودعم كبير من السلطة والحكومة لمعيشتهم بالقرب منهم بالمقام الاول ولانهم بالعاصمة زغرب .. ولأن النادي سيمثل البلد كثيرا في المنافسات الاوروبية المرموقة فلذلك يجب دعمه بشكل لا نهائي حتى يظهر بشكل ممتاز للعالم
بينما اسم رابطة مشجعي هايدوك سبليت تدعى ( TORCIDA ) وهي ترمز الى عصابة في امريكا الجنوبية اشتهرت كثيرا في الخمسينات خلال مونديال البرازيل 1950 .. يعكس مقر الرابطة مدى الضعف والجانب المادي الضعيف التي تملكه بالمقارنة مع رابطة دينامو زغرب .. فهي لا تملك دعم حكومي او بلدي وانما تقوم بما تستطيع فعله من تلقاء نفسها ومن مصاريفها الشخصية بلا دعم خارجي .. حتى ان سقف المقر يتسرب ولا يستطيعون اصلاحه بحسب وصف احد المنتمين الى الرابطة عندما قابله احد الاعلاميين .. وحينما تبدأ مناوشات العنف مع رابطة دينمامو فإنهم يستخدمون قبضاة ايديهم بكل فخر بكل المنتمين الى دينامو الذين يملكون تاريخا حافلا مع السكاكين ..