مرض النبي ووفاتة
طلع البدر علينا
سبب موت الرسول -صلى الله عليه وسلم- الرئيسي وكما هو ثابت في نصوص الأحاديث الشريفة الصحيحة هو أثرُ السمِّ الذي كان في الشاة التي أهدته إيَّاها المرأة اليهودية في خيبر،
وأكل منها عند ذلك، ففي الحديث الذي رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- أنَّ يهوديةً أهدَتْ إلى النَّبي -صلَّى الله عليهِ وسلَّم- بخيبرَ شاةً مصليةً سَمتْهَا، فأكل رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- منْهَا، وأكلَ القومُ، فقالَ: "ارفعُوا أيدِيكم فإنَّها أخبرتْنِي أنَّها مسمومةٌ"
وكان أثر هذا السم يثور عليه أحيانًا، وهو سبب موت الرسول. وكما وردَ في كتاب لطائف المعارف أنَّه كان أوَّل مرضِه -صلى الله عليه وسلم- صداع الرأسِ، والظاهر أنَّه كان مع الحمَّى التي أصابته.
قال الزرقاني: «ومن المعجزة أنه لم يؤثّر فيه في وقته؛ لأنهم قالوا: إن كان نبيًّا لم يَضُرَّهُ، وإن كان مَلِكًا استرحنا منه، فلمَّا لم يُؤَثِّرْ فيه تيقنوا نُبوَّته حتى قيل: إن اليهودية أسلَمَتْ، ثم نقض عليه بعد ثلاث سنين لإكرامه بالشهادة»
بداية مرضة
بدأ مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعد أكله من الشاة المسمومة في خيبر
فقد قال: «يَا عَائِشَةُ مَا أَزَالُ أَجِدُ أَلَمَ الطَّعَامِ الَّذِي أَكَلْتُ بِخَيْبَرَ فَهَذَا أَوَانُ وَجَدْتُ انْقِطَاعَ أَبْهَرِي مِنْ ذَلِكَ السُّمِّ» (رواه البخاري). [الأَبْهَر: عِرقٌ إذا قُطِع لم تبق معه حياة].
وكانت أُولى بدايات مرضه صلى الله عليه وسلم في اليوم الثامن أو التاسع والعشرين من شهر صفر سنة 11هـ
عن عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه قال: «دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا، فَمَسِسْتُهُ بِيَدِي فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ لَتُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا،
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَجَلْ إِنِّي أُوعَكُ كَمَا يُوعَكُ رَجُلَانِ مِنْكُمْ»
ولما ثقل برسول الله صلى الله عليه وسلم المرض، جعل يسأل صلى الله عليه وسلم أزواجَه: (أين أنا غدًا؟ أين أنا غدًا؟) ففهمن مراده، فأذِنَّ له يكون حيث شاء، فانتقل إلى بيت عائشة يمشي بين الفضل بن عباس وعلي بن أبي طالب عاصبًا رأسه، تخط قدماه حتى دخل بيتها، فقضى عندها آخر أسبوع من حياته.
وكانت عائشة تقرأ بالمعوذات والأدعية التي حفظتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت تنفث على نفسه، وتمسحه بيده رجاء البركة.
شدة مرض النبي
صابت الحمى الرسول – صلى الله عليه وسلم - ، وظل يعاني منها أيامًا، فأمر أبا بكر الصديق أن يصلي بالناس، وكان إذا خرج إلى المسجد استند إلى الفضل بن العباس، وعلي بن أبي طالب.
وفي بيت عائشة -رضي الله عنها- اشتد به الوجع وأغمي عليه، وكان قد شعر بقلق أصحابه وحزنهم عليه، فأمرهم أن يصبوا عليه من سبع قرب مليئة بالماء لم يكشف غطاؤها، لعله يستطيع الخروج إلى الناس
فقال صلى الله عليه وسلم: «أَهْرِيقُوا عَلَىَّ مِنْ سَبْعِ قِرَبٍ لَمْ تُحْلَلْ أَوْكِيَتُهُنَّ، لَعَلِّي أَعْهَدُ إِلَى النَّاسِ» (رواه النسائي).
قالت عائشة -رضي الله عنها-: فأجلسناه في مخضب (الشيء الذي يغسل فيه الثياب)، ثم طفقنا نصب عليه من تلك القرب حتى طفق يشير إلينا بيده أن قد فعلتن.
وعند ذلك أحسّ بخفة، فدخل المسجد متعطفًا ملحفة على منكبيه، قد عصب رأسه بعصابة حتى جلس على المنبر، وكان آخر مجلس جلسه، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «أيها الناس، إليَّ»، فقاموا إليه، فقال «قَاتَلَ اللهَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» (رواه البخاري)، وأوصاهم قائلًا: «لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ» (رواه مالك) وكأنه صلى الله عليه وسلم أَحَسَّ باقتراب أجَلِه!
ثم كان أول ما تكلم به أن صلى على أصحاب أحد، واستغفر لهم. ثم قال: «إِنَّ عَبْدًا خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا مَا شَاءَ وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ فَاخْتَارَ مَا عِنْدَهُ»
ثم إنه صلى الله عليه وسلم أوصى بالأنصار في آخر مجلس له قائلًا: «أَمَّا بَعْدُ أَيُّهَا النَّاسُ فَإِنَّ النَّاسَ يَكْثُرُونَ وَتَقِلُّ الْأَنْصَارُ حَتَّى يَكُونُوا كَالْمِلْحِ فِي الطَّعَامِ فَمَنْ وَلِيَ مِنْكُمْ أَمْرًا يَضُرُّ فِيهِ أَحَدًا أَوْ يَنْفَعُهُ فَلْيَقْبَلْ مِنْ مُحْسِنِهِمْ وَيَتَجَاوَزْ عَنْ مُسِيئِهِمْ» فَكَانَ آخِرَ مَجْلِسٍ جَلَسَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (رواه البخاري).
فكأن أبا بكر فهم ما يقصده رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فبكى، وقال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا. فقال الناس: انظروا إلى هذا الشيخ، يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد خيَّره اللهُ بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا، وبين ما عنده، وهو يقول: فديناك بآبائنا وأمهاتنا!! فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المُخَيَّر، وكان أبو بكر أعلم الصحابة بمراد الرسول صلى الله عليه وسلم.
وعاد رسول الله (إلى بيته، واشتد به وجعه، وثقل عليه مرضه، وكان إلى جواره قدح به ماء، يغمس فيه يده، ثم يمسح وجهه بالماء ويقول: "اللهمَّ أعني على سكرات الموت" [الترمذي والنسائي].
وفاة النبي
وفي صلاة صبح يوم الاثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول في العام الحادي عشر للهجرة، رفع الحبيب محمد الستر المضروب على منزل عائشة، فنظر إلى أصحابه وهم يصلون، فسره اجتماعهم ووحدة كلمتهم، ونظر إليه الناس، فاطمأنوا عليه، وظنوا أن صحته قد عادت إليه، ولكنها كانت نظرة الوداع، فما إن حل الضحى حتى خرجت روحه الطاهرة إلى خالقها - سبحانه وتعالى -.
فقالت فاطمة -رضي الله عنها-: يا أبتاه! أجاب ربًّا دعاه. يا أبتاه! جنة الفردوس مأواه. يا أبتاه! إلى جبريل ننعاه. [البخاري]
وتسرب النبأ الأليم في المدينة، فأظلمت جنباتها بعد أن أشرقت، وسعدت بحياة رسول الله- صلى الله عليه وسلم -على أرضها.
لقد كان حادثًا مؤلمًا مفجعًا، فها هو ذا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لم يصدق الخبر عندما سمعه، فقال: " إن رجالاً من المنافقين يزعمون أن رسول الله توفي، وإن رسول الله ما مات، ولكن ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران ( حين غاب عن قومه أربعين ليلة. ثم رجع بعد أن قيل قد مات ) والله ليرجعن رسول الله ، فليقطعن أيدي رجال وأرجلهن يزعمون أنه مات! ".
وأقبل أبو بكر حتى نزل على باب المسجد حين بلغه الخبر، وعمر يكلم الناس، فلم يلتفت إلى شيء، دخل على الرسول (في بيت عائشة وهو مغطى في ناحية البيت) ، فكشف وجهه فقبله، ثم قال: بأبي أنت وأمي..أما الموتة التي كتب الله عليك فقد ذقتها، ثم لن يصيبك بعدها موت أبدًا.
ورد الثوب على وجهه، ثم خرج وعمر يكلم الناس، فقال: على رسلك يا عمر.. فأنصت. لكن عمر ما زال ثائرًا، فلما رآه أبو بكر كذلك، أقبل على الناس، وشرع يتكلم، فلما سمعه الناس انصرفوا عن عمر وأقبلوا عليه.
وحمد أبو بكر الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس.. من كان يعبد محمدًا، فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ثم تلا هذه الآية: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين) [آل عمران: 144].
لقد مات الرسول (ولكن بقيت شريعة الله، وسنة رسوله بين المسلمين، ما بقيت السماوات والأرض ضياءً وهدى لكل من استضاء واهتدى.