مراجعة ومناقشة كتاب «عقلٌ غير هادئ: سيرة ذاتية عن الهوس والاكتئاب والجنون»
أشك أحيانًا إن كانت حياةً هادئةً وغير هائجة ستُناسبني.. ومع ذلك أتوق إليها أحيانًا.
بايرون
تمهيد
لماذا عقلٌ غير هادئ؟
كنت أمتلُك عقلٌ غير هادئ وقرأتُ عن العقول الغير الهادئة أيضًا، محاولةً أن أفهم كيف يُمكن للشخص أن يصاب بالجنون في لحظة ما ولماذا تحدث نوبات الهلع، لماذا يحتجز الاكتئاب الناس كرهائن.. ولماذا في بعض الأحيان ينقلب العقل على الجنس البشري ويصبح أسوء أعدائه، “ ماهي علاقة الأمراض العصابية بالفن والإبداع والأدب ولماذا لديها القدرة على التعمّق في الحياة وأسرارها؟ “
في هذا الكتاب تحكي لنا الدكتورة كاي تجربتها مع تشخصيها الرسمي بمرض «ذهان الهوس الاكتئابي: متكررٌ، حادٌ، مع اكتئاب شديد وأعراض ذهانيةٍ وشفاءٍ كامل بين النوبتين» نعيش معها النوبات الشديدة التي تفقد فيها السيطرة وتنقاد لفعل ما تشتهيه روحها دون أن تضع في الاعتبار عواقب تلك التصرفات، فتخسر رجاحة عقلها وتفقد حرية الاختيار وتضيع في داخل هذا المرض الذي يسلب منها نفسها الحقيقة ويتركها مع عقلًا لا يكاد يفرق بين الحقيقة والحلم. نعيش معها الجانب الأسوء من النوبات حين يغطي السواد حياتها، متفكّرة كيف بإمكانها أن تنهي هذا الصراع بأكثر الطرق وهي في داخل تلك الدوامة تعتقد أنها شاعرية. إنها نظرة لهذا المرض الموحش القاسي من داخل عقل المريضة الذي أصبحت طبيبةً وأستمرت بكونها الإثنين لفترة طويلة.
في السنوات الأخيرة ظهر مرادف أكثر شعبية للمرض وهو «الاضطراب الوجداني ثنائي القطب — Bipolar Affective Disorder» ولكن تبقى المؤلفة تفضلّ المصطلح الأول لأنه يفسّر المرض بشكل أفضل. وعلى الرغم من تفضيلي الدائم لقراءة الكتب بلغتها الأم ولكن النسخة المترجمة من هذا الكتاب رائعة جدًا ويستحق (حمد العيسى) وقفة إحترام على ترجمته المتقنة الشغوفة وعلى استطراده لشرح المصطلحات الطبيّة في الهوامش.
«ذهان الهوس الاكتئابي»
ذهان + هوس + اكتئاب
الذهان (Psychosis): هو اضطرابٌ عقليٌ خطيرٌ وخللٌ كاملٌ في الشخصية يجعل سلوك المرء مختلًا، ويعوق نشاطه الإجتماعي، ويفقده الاتصال بالواقع. أهم أعراضه: اضطراب السلوك، تفكك الشخصية الأصلية، التشوش، تذبذب المزاج، وجود الضلالات والهلاوس.
نوبة الهوس (Mania): يرتفع فيها المزاج بدرجةٍ غير متناسبة مع ظروف المريض على هيئة إبتهاجٍ وحيوية كبيرين. تتراوح درجة الابتهاج بين التفاؤل المفرط إلى تضخيم الذات. زيادة في الطاقة وقلّة الحاجة للنوم مما يؤدي للعنف، إهمال الأكل، صرف المال دون حساب، وقد يصبح المريض عدوانيًا، عاشقًا أو مازحاً في ظروف غير مناسبة.
الاكتئاب (Depression): هبوط حاد في المزاج، إنخفاض في الطاقة والنشاط والحيوية. يبدي فيها المريض عادةً ضيقاً وتوتراً وبطئاً بالغين مع فقدان تقدير الذات. وتصبح نظرته للحياة سوداوية قاتمةً، ويمثل الإنتحار خطراً محتملاً في الحالات الشديدة.
(عقلٌ غير هادئ) هو كِتابٌا كُتِب ليجعل الحديث عن الغير مريح عادة وليوقظ العالم من غيبوبته الطويلة تجاه العقول المختلفة التي تحتاج من المجتمع أن يتقبّل وجودها ويشجع أصحابها لطلب المساعدة الطبية ومنحها الوصول السريع إليها إن إحتاجتها، فإن لم تحصل عليها قد تصبح بعيدةً بخطوةٍ واحدةٍ فقط لتهوي إلى الجنون الذي وفي حالات معينة لا عودة منه.
تصف (كاي) هذا المرض بإنه تكثيفٌ لكل ما هو جميلٌ في طبائعنا، ولكل ماهو خطيرٌ جدًا ولأنه كان إمتدادًا لذاتها المتقلبة المزاج، المندفعة والمليئة بالطاقة لم يكن إكتشافها لوجوده لديها سهلًا. في آخر مرحلة من الثانوية أصابتها النوبة الأولى التي جعلتها تشعر بإنها رائعة حقًا، كانت تكتب وتقرأ وتعيش بكل ما تحمله من حماس. ومن ثم بعد أن تحرق هذه النوبة نفسها تبدأ بالتدهور ويصبح تفكيرها ضبابيًا، غير قادرة على التركيز في أي نشاطًا تفعله. أصبحت منهكةً وبالكاد تستطيع أن تسحب نفسها من السرير وأمنيتها الوحيدة كانت الموت وكغيرها من باقي البشر الذين عانو من الأمراض النفسية استطاعت التظاهر أمام الغير بإن كل شيئًا كان طبيعيًا.
محاولةً إستهلاك الطاقة المجنونة المقلقة واللانهائية. كنت أعدو بسرعةٍ ولكنني كنت أتجه نحو الجنون ببطء.
كانت إحدى أعراض المرض الانهماك في «فورة شراءٍ مفرطة» فبدلاً عن شراء تذكرةٍ واحدةٍ لسيمفونية بتهوفن، أشترت كاي تسعًا! أشترت أثاثاً غير ضروري، ثلاث ساعاتٍ فخمة، وفساتين غير لائقة شبية بملابس الحوريات وتطول القائمة. فكانت الطريقة الوحيدة للتخفيف من الإهتياج هي أن تركض على الشاطئ ولكن ما لم تكن تعلمه حين ذاك أن في محاولاتها لاستهلاك الطاقة المجنونة المقلقة واللانهائية، كانت تعدو بسرعةٍ ولكنّها كانت تتجه نحو الجنون ببطء.
أختفى الاكتئاب ليحشد قواه للهجمة القادمة
في نهاية المطاف أختفى الاكتئاب طواعيةً من حياتها فقط ليحشد قواه للهجمة القادمة. في عام 1971 حصلت على شهادتي البكالريوس والماجستير من جامعة كاليفورنيا في «علم النفس السريري» وحصلت على درجة الدكتوراة عام 1975 وتم تعيينها كأستاذة مساعدة في قسم الطب النفسي وخلال أشهرٌ بدأت تصبح ذهانيةً بحق.
كانت التصرفات البسيطة الشاذة، والغير منطقية هي البداية فقط
استمتعت كاي بالتدريس فكانت تعمل كثيرًا وتنام قليلًا جدًا. وهذا المزيج ساقها إلى مستويات جديدةً من حماسها المعتاد وأدى لسقوطها إلى جنونٍ مكتمل. ولكن هذا لم يحدث فجأةً فقط، الرجل الذي سيصبح طبيبها النفسي لاحقًا كان حاضراً للحفلة الترحيبية بأعضاء هيئة التدريس الجدد وفي إحدى جلساتهم حكى لها عن ذكرياته لها في الحفل قائلاً أنها كانت ترتدي ملابس مثيرةٌ بشكلًا لافتًا للنظر وكانت تضع مكياجاً أكثر بكثير من المعتاد وبدوت مسعورةٌ وثرثارةً ويذكر أنه همس لنفسه: «كاي تبدو مهووسةً» فكانت التصرفات البسيطة الشاذة والغير منطقية هي البداية فقط.
بدون أن أتخيل أنني يوماً ما سوف أنظر في المرآة وأرى الحزن والجنون في عيني نفسيهما.
في الأيام الأولى لمرضها كان هنالك بعض البصيرة والمعنى لما قامت به ولكن ببطءً بدأ الظلام ينسج خيوطه داخل عقلها، ورويداً رويداً أصبحت يائسةً وغير مسيطرةً على نفسها. كانت الجُمل تتطاير في رأسها بسرعة عالية: أولًا إلى عبارات غير مفهومة، ثم إلى مجرد كلماتٍ وأخيراً إلى حروفٍ فقط. في إحدى الليالي لم تكن أفكارها مشوشةً بعنفٍ فقط ولكن تقهقرت الهلوسة وصارت تصرخ مراراً وتكرارًا. ذلك اليوم سكبت الكثير من النبيذ، اتصلت بزميل وطلبت المساعدة.
كانت مهمة العلاج النفسي الوصول إلى حياة لها معنى.
لحسن حظ (كاي) وعلى عكس الكثيرين ممن عانوا من الأمراض النفسية لقد كانت تملك صديقًا «وهو طبيب عام» كان على استعداد بإن يتقبل هوسها وحنقها وأوهامها وصارحها بأنها تحتاج أن تأخذ «الليثيوم» وهو الدواء الوحيد المتوفر لمعالجة هذا المرض عام 1970. وأخبرها بإنه يعتقد أنها تعاني من «ذهان الهوس الاكتئابي» ولم يكن ذلك سهلًا لانها كانت عنيفةً جسدياً ومصابة بالارتياب ولكنّه استطاع السيطرة على الوضع بذكاءً وتفهمٍ وأقنعها بحجز موعدٍ مع طبيبٍ نفسي.
لقد أبقاني على قيد الحياة أكثر من ألف مرة.
خلال السنوات العديدة القادمة قابلت طبيبها النفسي مرة أسبوعياً وتؤكد على أهمية وجوده في حياتها بأنه أبقاها على قيد الحياة أكثر من ألف مره. شاهدها في حالات الجنون، واليأس، وعلاقات حبٍ ناجحةٍ وفاشلةٍ، وانتصاراتٍ وخيباتٍ، وتحسنٍ ثم عودةٍ للمرض، ومحاولة انتحارٍ شبه مميتة، ووفاة رجلٍ أحببته كثيراً.
العلاج النفسي هو أرض المعركة.
لا تستطيع (كاي) تخيل سير حياتها الطبيعة دون العلاج النفسي والأدوية. تناول «الليثيوم» منع حالات الابتهاج الفاتنة المدمرة، وقلل من اكتئابها، نظف تفكيرها الفوضوي، بطئها وهدئها، جعلها خارج المستشفى ومنعها من تدمير وظيفتها وعلاقاتها. وتركز على أن الحبوب فقط تعيد الشخص إلى الواقع بتهورٍ وإن العلاج النفسي هو أرض المعركة. إنه المكان الذي الذي تعلّمت فيه أنه لربما في يومٍ ما سينتهي صراعها.
ما فرَّقه الألم إرباً إرباً، يمكن لطبيب نفسي من الطراز الأول وحبٍ وحنانٍ أن يعيد تركيبه.
العلاقات العاطفية كانت جزءًا كبيرة من رحلة (كاي). بعد فشل زواجها الأول بفترة أحبّت (ديفيد) طبيبٌ نفسي من السلك الطبي للجيش الملكي، وجدت نفسها تتحدث معه بحرية وصراحة لم تفعلها منذ سنين، وعلى الرغم من كونها لا تزال تتعافى من اكتئاب انتحاري طويل ألا أنها أيقنت أن أمورها ستتحسن إن كانت بقربه فذهبت إلى لندن وسكنت معه لبضعة أسابيع. وبالفعل أثره عليها كان عظيماً. بدأت تستمتع بالموسيقى والرسومات مجدداً. بدأت بالضحك وكتابة الشعر.. الليال الطويلة والصباحات المبّكرة من العواطف ذكرتها «بأهمية الاحساس بأن أعيش لأحب وأن أحب لأعيش»
لا يوجد مقدارٌ من الحب، مهما كان، يستطيع أن يعالج الجنون.
توفي (ديفيد) بطريقةٍ مفاجئةٍ بسبب نوبةٍ قلبيةٍ حادةٍ. ولكن وفاته لم يغمر حياة (كاي) بالافكار السوداوية. الانتحار لم يخطر على بالها مطلقاً وتذكر أن الأسى، لحسن الحظ، يختلف كثيراً عن الاكتئاب: إنه حزينٌ ورهيبٌ ولكنه ليس بلا أمل. الزمن ساعدها على النسيان. ولكنه، بمرارةٍ رهيبةٍ، أخذ وقته من أجل ذلك.. فمن تجربتها تذكر بأنه لا يوجد مقدارٌ من الحب، مهما كان، يستطيع أن يعالج الجنون. ولكن إن لم يكن الحب هو الترياق الشافي، فإنه بكل تأكيد يمكن أن يعمل كعلاج مؤثر ومساعد. وهكذا واصلت العمل بصورة ممتازة وسلسة وقضيت معظم وقتها بعد تلك الفاجعة في تأليف كتابٍ جامعيٍ عن «ذهان الهوس الاكتئابي» بالاشتراك مع زميل. كانت تخشى أن تؤثر تجاربها الشخصية على المحتوى ولكن زملائها كانوا على علمٍ بمرضها وراجعوا ما كتبته.
مُنظمون بالاختلاف
ثلاثون عاماً من العيش مع «ذهان الهوس الاكتئابي» جعلت (كاي) تدرك أنه نحن جميعاً كما يقول (بايرون): «مُنظمون بالاختلاف» فبالنسبة لها الحب هو الجزء الجوهري الاستثنائي الذي يساعدها على صد الوحوش والرعب بينما، في نفس الوقت، يسمح بدخول الحياة والجمال والقدرة على البقاء. عندما فكّرت أول مرة بتأليف هذا الكتاب، تخيلته كتاباً عن مرض الأمزجة في سياق حياة شخصٍ ما. ولكن عندما كتبته، تحوّل بطريقة ما ليكون على نحوٍ كبيرٍ كتاباً عن الحب أيضاً.
الحب كعامل مؤازر، والحب كعنصرٍ مجددٍ، والحب كأداةٍ للحماية.
بعد كل ما مرت به (كاي) من موت في العقل والقلب عاد الحب ليخلق الأمل ويرد لها الحياة.
ختامًا تذكر عن تجربتها بالهوس الاكتئابي: “بأمانة أعتقد أنه نتيجة لهذا المرض صرت أشعر بأمور أكثرٍ بطريقةٍ أعمق.. ومررت بتجارب أكثر بحيويةٍ أعظم.. أحببت كثيراً.. وأُحببت أكثر… ضحكت كثيراً كما بكيت أكثر.. أصبحت أكثر تقديراً للربيع مقابل كل الشتاءات.. لامست الموت وقدرته.. -والحياة- بصورةٍ أكبر.. شاهدت أروع صفات الناس وأبغضها، وببطءٍ تعلمت قيمة الرعاية، والوفاء، ورؤية دواخل الأشياء. لقد رأيت امتداد وعمق وعرض عقلي وقلبي، ورأيت كم هما هَشَّان كلاهما، وكم هما مجهولان في النهاية.”
أبدعت المؤلفة بأسلوب الكتابة وطريقة سردها كانت رائعة، شاعرية ومؤذية أحاطتني بهالةٍ سوداويةٍ كئيبة وفي لحظاتٍ متكررة إحتجت أن أتوقف عن القراءة من قوة وقع الكلمات على عقلي وجسدي. نجحت في استخدام المصطلحات المختلفة الدقيقة لتعبّر عن جيش المشاعر اللانهائي، ووصفها للتفاصيل لم يشعرني قطعاً بالملل وعلى العكس أضاف بعداً آخر لم أره في سيراً ذاتية قرأتها من قبل. شفافيتها جعلتني أسيرة لتلك المشاعر الملخبطة، صنعت العواصف ورسمت سُحباً من الألم. (كاي) عاشت رحلة مؤلمة أنتهت بوصولها لفهم نفسها وذاتها وكتبتها وفقاً لذلك وأحسست أنا أيضاً بوصولي إلى بر الأمان مع نهايتها. أكدت فيها على أهمية العائلة والاصدقاء في مجرى حياة المريض النفسي، وأشادت على أهمية الوصول السريع للعلاج النفسي والأدوية، وتحدثت بلسان المريض عن أعراض المرض مشاركةً معلوماتٍ طبية في السياق. العديد من المشاعر المختلفة واجهتني عند قراءة كتاب «عقلٌ غير هادئ» وأقواها هو عدم الراحة، ولكن هذا مانطلبه من الفن، أن يقدم لنا مانخشاه ونتجاهله على أرض الواقع؛ أن يستخدم وسائله المكتوبة، المرئية والمسموعة لكي يضعنا في وسط زوبعة الحياة ويساعدنا على فهم أنفسنا وبعضنا البعض.
(كاي) كتبت رسالة حب بأكثر الطرق شاعريةً لتذكّرنا أن الإنسان للإنسان وبكل شجاعة أرخت من دفاعها وجسّدت في سردها لقصة حياتها مفهوم الـ (Vulnerability) راجيةً من أن ترفع وعي العالم بأسره وتكشف الستار عن مرض «الاكتئاب الوجداني ثنائي القطب» ولهذه الأسباب تقييمي لهذا الكتاب ليس بموضوعية مُطلقة وإنما حاولت قدر الإمكان أن يكون كذلك. فلا أعلم إن كانت كلماتها إخترقت قلوبكم كما إخترقت قلبي.. بقوةً شديدة، عنيفةً وضرورية.. شاعرية، مُلهمةٍ بكل إنسانيةٍ وحقيقة، إن كانت فشاركوا التدوينة وكونوا جزءًا من هذا الحِراك الإنساني ضد وصمة العار المصاحبة للأمراض الغير مرئية، النفسية كما نطلق عليها والعصابية كما فرضت نفسها.
بالفن آمنَّا وبالفن أبصرنا، بالفن نجونا وبه سوف نُخلّد ذكرانا..
هديل محرم