الارتقاء لمستوى الحدث ونقطة التحوّل
قبل أكثر من ألف وأربعمائة سنة، التقى جيشان بمُعطيات مختلفة مادية ومعنوية، عند احتساب المنطق والأرقام فيها تخرج لك نتيجة مُختلفة عمّا حصل في الواقع، جيش المسلمين بفارسين وقرابة الثلاثمائة جندي فقط مقابل مائتي فارس وألف جندي من قريش، والأول خرج بهدف الإغارة على قافلة لا الدخول في معركة، أما الثاني فخروجه لأجل المعركة. فَلم يتراجع الأول أو ينسحب أو يؤجّل الأمر؛ بل ارتقى لمستوى الحدث والتحدّي، فانتصر وتغيّر بعد ذلك مستقبل مسيرة ما يؤمن به ليومنا هذا. لا شك أن النصر من الله؛ ولكن من أهم الأسباب كان عدم الانسحاب أو التأجيل بل ارتقاء استثنائي لمستوى المناسبة والحدث، ولو انسحبوا فلا ملامة في نظرنا من الناحية المنطقية لاختلاف المُعطيات الواضح بين الطرفين، ولكنّه بالطبع لم يكن تهوراً، فقد سبق ذلك إعداد وتجهيز لعدّة أشهر على مواقف شبيهة من سَرايا وغيرها.
وعلى صعيد مختلف، فإن لعبة القفز بالزانة (العصا) هي أحد ألعاب القوى التي تُعزز لهذا المفهوم، فعلى قدر ارتفاع الحاجز يكون التدريب والإعداد؛ ولكن في ظل بقاء الحاجز على مستوى ثابت فستكون كل قفزة مثل مثيلاتها ولن يتغير شيء في حياة الرياضي الذي يرغب بالنجاح والتميز وكسر الأرقام القياسية، بل سيُصبح الأمر بالنسبة له (روتيناً) يومياً يقوم به.
في ظل بقاء الحاجز على مستوى ثابت فستكون كل قفزة مثل مثيلاتها
كلنا ذلك الإنسان الذي يمر بتحدّيات وظروف أو أحداث وفرص، تكون منطقياً ومادياً أعلى من مُعطياته الحالية؛ وبالتالي نختلف في كيفية تعاملنا معها، فالبعض يَستعد ويُعد ويُضاعف الجهد ليرتقي لها ويتجاوزها، والآخر يَنسحب بهدوء أو يؤجّل المواجهة لوقت لاحق مُعتقدًا أنه سيكون أكثر استعدادًا. فإن كنت من النوع الأخير وتريد البقاء كذلك فلا ملامة، ولكن لا تتوقع تغيّراً كبيراً أو نقلةً نوعية في مسيرتك. وقد قيل "الحياة مغامرة جريئة أو لا شيء"، أمّا النوع الأول فعادةً ما يكون مؤمناً بذلك، محبَّاً لكل تحدٍ أو فرصةٍ جديدة؛ ولكن قد يكون ما يؤرّقه هنا هو أين هذه المغامرة أو التحدي أو الحدث؟! فيدخل في نفق الركود متجاهلاً الاستعداد لها ومحاولة النُّضج لأجلها. لذا من المهم الإيمان بأن الحدث أو الفرصة قادمة، والأهم من ذلك أن يكون الإنسان مستعداً لها، وأحياناً ما يسمّيه البعض حظّاً أو صدفةً هو في الحقيقة فرصةٌ أتت لإنسان بذل من الاستعداد ومحاولة النُّضج غالب وقته فانتهزها حال قدومها.
لماذا الصبر والاستعداد رغم جهل المستقبل؟! لماذا الاستمرار في تطوير الذات أو التدريب أو التعلّم رغم غموض النتيجة؟! لماذا الإصرار على عمل ما تُحب رُغم وجودك في وظيفة مُختلفة؟ ثم بعد ذلك كله، لماذا الارتقاء في لحظة التحدي أو الحدث؟ رغم تصاعد الشكوك حولك وقت التحدّي! لماذا كل هذا؟ خصوصاً لمن يشعر أنّ رحلته في طريق النجاح لم تبدأ بعد!! والجواب بظنّي هو لأنّ هذا الارتقاء قد يكون هو نقطة التحوّل في مسار الإنسان، ونقطة التحوّل تستحق كل هذا وأكثر.
نقطة التحوّل هي كما يعرفها الكاتب المعروف "مالكوم قلادويل" في كتابه "The Tipping Point" ب"نقطة الغليان"، فهناك تسعة وتسعون درجة قبل بدء الماء بالغليان، وهي ذاتها نقطة التحول في حياة نبيّنا الكريم عندما بعثه الله تعالى للأمة عند بلوغه الأربعين، فقد كان قبلها استعداد استثنائي من رَعيٍ للغنم وتجارة وخلوة مع النفس، وهي ذاتها نقطة التحول في حياة يتيم فقد والده وليس لأسرته عائل، فيرتقي لمستوى هذا التحدي والحدث ويُصبح رجل العائلة الأول وأبعد من ذلك أيضاً، والأمثلة والقصص حولها كثيرة. (للاستزادة كتاب "أيتام غيروا مجرى التاريخ" للكاتب "عبدالله الجمعة").
إنّ مواضع الحث على التوكل لنبينا صلوات ربّي وسلامه عليه عديدة في القرآن الكريم، بعضها مرتبط بنقاط مفصلية تحولية، ولا يمكن بحال أن يكون مسارنا الوظيفي أو الريادي أو التجاري أصعب من مساره ورحلته. ويقول الله عزّ وجلّ (فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ)، ويقول نبينا الكريم صلىّ الله عليه وسلّم (اعقلها وتوكّل)، كما أنّ أورادنا اليومية لا تخلو منها فهي خير مُعين يومي لنا عند استحضارها.
دونك مُقتبسات من خطاب لأحد الذين مرّوا بنقطة التحوّل هذه رٌغم تواضع مُعطياته المادية يقول فيه "ارفع ما تَبقّى من حياتك لتُقابل مستواك...لا تبحث عن لحظات حاسمة تُحدد من أنت، فاللحظة التي تُحددك قد حدثت بالفعل، وستحدث مرة أخرى...المشكلة فقط أنك خرجت عن المسار قليلاً...ولكن سرعان ما يبدأ شيء ما يحدث (يقصد هنا أثر نقطة التحول)، وهو إيقاع متسارع لمسارك وانطلاقة متسارعة للأحداث فيه".
أختم بعبارة لطيفة يرددها دوماً جاك ما رئيس شركة علي بابا الصينية حيث يقول "اليوم صَعب، وغداً أصعب، ولكنَّ اليوم الذي بعد غد سيكون جميلاً، لكنَّ مُعظم الناس يَموت غداً مساءً".