من أين يأتي الإلهام؟

العقل البشري مميزٌ جداً، لا أقصد بحديثي هذا التقدم المعرفي والحضاري الذي نعيشه وحسب، بل اتحدث عن الأشخاص الأوائل في مجالاتهم ومن اكتشف شيئاً بدون وجود دلالات واضحة عليه، مثل إدراك نيوتن للجاذبية، ووضع آينشتاين لنظرية النسبية، وكيف خالف ابن الهيثم نظريات أرسطو وبطليموس وإقليدس المسلم بها وأثبت أن الضوء ينعكس من الأجسام إلى العين وليس العكس، وكيف اختلق فيكتور هيوغو قصة أحدب نوتردام! 


من أين يأتي الإلهام يا ترى؟ وما هو إلهام النوابغ؟

شيء موجود منذ الأزل منذ أن وطأت قدما الإنسان الأول آدم -عليه السلام- الأرض ولم يكشف عنه النقاب إلا شخصٌ واحد أو عدة أشخاص في عدة قرون لاحقة، كيف انتقل الإنسان من مبدأ “الحاجة أم الإختراع” إلى “الفضول هو ماهية العلم: السعي للكشف عن المجهول”، كل هؤلاء العلماء والأدباء والمفكرين ترفعوا عن احتياجات الإنسان البيولوجية الأساسية واتجهوا للكشف عن المجهول.




كيف لبشري أن يجتاز حدود عالمه الصغير ويبحر في الغموض؟ لا زال أمامنا الكثير لنتعلمه ونكتشفه ونخترعه، أعني لم يستطع العلم إثبات وجود بوزون هيكز إلا عام 2011، والعجيب أن الإسكتلندي بيتر هيكز تنبأ بوجوده عام 1969، هذا الجسيم الأولي الذي يعطي كل الأجسام المادية كتلتها، شيء اعتدنا على وجوده ككتلة المواد؛ لم نستطع فك إحدى أحجياتها إلا قبل عدّة سنوات، ياترى ماهو التالي؟! هل يعقل أننا بلعبة محاكاة ضخمة يتم التحكم بها! وما نحن إلا جزء مبرمج مسبقاً بها؟ آه يا إلهي، لقد نسيت بأن الخوض في المعضلات الوجودية يقود إلى الجنون!!

إحدى رسوماتي



في وجهة نظري الشخصية: أعتقد أن الإلهام يأتي من التساؤلات التي يطرحها الإنسان على نفسه والآخرين، فكل شيء حولنا مثير للاهتمام إذا نظرنا إليه بعين طفل فضولي! فلو أردنا حقاً معرفة من أين يأتي الإلهام فعلينا معرفة كيف ومتى بدأ الانسان بالتساؤل، طرح الأسئلة هو ما قاد الإنسان للإبحار في خفايا الكون، يا ترى من كان أول شخص قام بطرح الأسئلة؟ قد يبدو مبدأ التساؤل بدهياً لنا اليوم، لكن؛ فكر في الشيء الذي دفع أول انسان للتساؤل، مثل؛ هل كان يأكل موزة ثم تساءل عن سبب حلاوة طعمها! أو شعور آدم -عليه السلام- عندما حل الليل على الأرض لأول مرة! يا ترى هل نزل آدم -عليه السلام- على الأرض ليلاً أم نهاراً؟! وكيف قرر الإنسان أنه سيستخدم النار لطهو الطعام؟! أو كيف تم اختراع العجلة من العدم بين العصر الحجري والعصر البرونزي؟! في الواقع اختراع العجلة وسع مدارك الانسان بالكامل كونها من أوائل الاختراعات البشرية التي ليس لها مثيل في الطبيعة، إذاً الطبيعة هي ملهمة الانسان الأولى، والتأمل بها سيقود الانسان حتماً إلى الإلهام، قال الله تعالى: (أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإبل كَيْفَ خُلِقَتْ . وَإِلَى السمآء كَيْفَ رُفِعَتْ . وإلى الجبال كَيْفَ نُصِبَتْ . وَإِلَى الأرض كَيْفَ سُطِحَتْ)، كما كتب د. خالد الراجحي في كتابه قاع الفنجان تأملات وفلسفات وقصص: “افتقدنا كثيراً أحد الطقوس الهامة والتي يسميها العلماء “العبادة المنسية” وهي عبادة التأمل”.


طرحت هذا السؤال على أصدقائي في مواقع التواصل الاجتماعي فإليكم بعض الإجابات التي حصلت عليها، تقول بتول: “إلهامي يبدأ من نفسي.. من القدرة على تمييز الجمال ومواطنه والبحث المستمر عنه حتى بأبسط الأشياء، يلهمني الورد، ويلهمني دائماً البحر وكيف أنه شاسع، يلهمني الفجر لمقاومة يوم جديد”، وتقول نوره: “من الشمس”، وتقول بشائر: “التأمل والترتيب لفترة طويلة”، وتقول غدي: “الأطفال”، وتقول خلود: “غالباً عندما أشاهد رسومات الآخرين، وعندما أشاهد السماء”، ويقول عبد الإله: “من المواقف التي تحصل له”، وتقول أمل سليمان: “الشغف ولحظاته ملهمة جداً.. الألم وزواله ملهم جداً.. الإهانة ثم نصر الله بعدها ملهم جداً، العسر ومعه اليسر ملهم لي جداً، لحظات الخذلان، الجرح، الاشتياق.. المشاعر بشكل عام ملهمة… الشمس ملهمة… الشمس ملهمة، الزهور ملهمة.. الماء ملهم، الشجر، البهجة بحد ذاتها ملهمة.. وجوه الناس، المواقف التي تحصل أمام عينك للمارة ملهمة.. كل شيء ملهم في هذه الحياة”

لا يمكن لنا الحديث عن الإلهام من دون ذكر العمل الدؤوب والعبقرية، وعند بحثي عن العلاقة بين العبقرية والإلهام والعمل الدؤوب وجدت نظريتين أساسيتين، الأولى بحسب موقع جامعة بابل “نظرية الألهام والعبقرية -التي وضع أسسها أفلاطون-: تذهب هذه النظرية إلى أن الأبداع هو ثمرة للإلهام الإلهي، والمبدع شخص احتضنته الآلهة منعمة عليه بالوحي والإلهام”،وأيضاً تنص النظرية على أن العبقرية هي مس من الجن أو الشياطين، “يقول بلوتارخ عن قدرة أرخميدس الفذة في الهندسة (… لا موجب بناءً على هذه الأسباب لإنكار ما يروى عنه من حكايات، كيف أن بعض الجنيات المألوفة والمقيمة معه يسحرونه على الدوام، وكيف أنه كان ينسى طعامه ويهمل العناية بجسده وكيف أنه عندما جروه بالقوة -كما يحدث دائما- إلى مكان الاستحمام والدهان أخذ يرسم أشكالا هندسية في المواقد ويرسم بأصابعه خطوطا في الزيت الذي دهن به جسمه وقد غمرته متعة كبيرة)” كما أن أصل كلمة “عبقرية” في اللغة العربية نسبة إلى وادي عبقر الذي تسكنه الجن حيث قيل في بعض الروايات أنه من أمسى ليلة في هذا الوادي أتته شاعرة أو شاعر من الجن لتلقنه الشعر، وإن كل شاعر من الشعراء في العصر الجاهلي له قرين من هذا الوادي، أما النظرية الثانية: فهي ربط العبقرية بالكدّ، فبحسب كتاب العبقرية: مقدمة قصيرة جداً للكاتب أندرو روبنسون “وفي مقولة إديسون التي يُستشهَد بها كثيرًا، والتي تعود إلى عام ١٩٠٣ تقريبًا: «إن العبقرية واحد بالمائة إلهامًا، وتسعة وتسعون بالمائة كدًّا.» ثم تكررت هذه الفكرة ثانية في قول يُنسَب إلى جورج برنارد شو، لكنه يغيِّر النِّسَب إلى: «تسعين بالمائة كدًّا، وعشرة بالمائة إلهامًا.»” كما كتب مصطفى أمين في كتابهالـ200 فكرة “إنك لا تستطيع أن تضع قاعدة لنمو العبقرية، كان شعر أمير الشعراء أحمد شوقي في منفاه أعظم وأروع مما هو عندما كان أقرب رجال الحاشية إلى الخديو عباس، وعندما كانت الأموال تنهال عليه من تجارة الرتب والنياشين!”  


كما كتب د. علي الوردي في كتابه خوارق اللاشعور ” إن الإبداع الفكري يحتاج كما لا يخفى، إلى أن يمر في مرحلتين هما مرحلة الخزن ومرحلة الاجترار. وبعبارة أخرى أن كل مبدع أو مفكر يحتاج في أول الأمر إلى عمل دائب حيث يجمع به المعلومات اللازمة فيخزنها في عقله الباطن لتختمر فيه وتنضج. وهذه هي ما نسميها بمرحلة الخزن. فإذا اجتاز المفكر هذه المرحلة، لجأ إلى المرحلة الثانية: وهي مرحلة الاجترار حيث تراه قد جلس بعيداً، كالبقرة التي تجتر ما خزنت في كرشها من طعام غير مهضوم، وأخذ يسبح سادراً في خيالات تشبه أحلام اليقظة. إنه يترك عقله الباطن آنذاك هائماً في خيالاته كما يشاء. وحينئذٍ تنبعث لديه معظم أفكار الإبداع والابتكار والاختراع. يقول باستير: (لا ينال قوة العارضة وإشراق البديهة إلا من صبر واستعد زماناً طويلاً لتلقي أشعتها)، ومن أهم العادات التي تسهم في توسيع مخزوننا؛ هي القراءة، فقد قرأت مؤخراً جزءًا من كتاب ما أعرفه على وجه اليقين لأوبرا وينفري وأستطيع أن أعبر عن الكتاب بكلمة واحدة: (ملهم) كما هو الحال للعديد من الكتب التي تلهم القارئ وتفتح له آفاقا جديدة.



كما لا ننسى أن الإلهام في بعض الأحيان قد يكون وليد الصدفة، فقد كتب صالح بن محمد الخزيم في كتابه ملهمون: “منتج بالصدفة، كان أحد الكيميائين يعمل في معمله عندما وقعت من يده قارورة زجاجية تحتوي على مادة البلاستيك السائل، وعندما حاول الرجل أن يجمع المادة، وجد أنها تلتصق معاً بقوة، وقد كانت نتيجة هذا الحادث البسيط أنه تمكن من اختراع الزجاج المقاوم للكسر”، وأيضاً قد نستقي إلهامنا من أشخاص آخرين، فكم من قصة نجاح ألهمت الكثير، شخصياً أجد الكثير من الإلهام في قصة هيلين كيلر، فكيف لفتاة عمياء وصماء أن تدخل الجامعة!     



 ذكر في التفسير الكبير للفخر الرازي أن “الإلهام هو أن يوقع الله في قلب العبد شيئاً”، متى كانت آخر مرة وقع في قلبك شيء؟ أو حري بي أن أسأل؛ متى كانت آخر مرة تساءلت أو تفكرت فيما حولك؟ 

لا تغرق باحتياجاتك البدائية الفسيولوجية كرجل الكهف الأول، بل انهض واطرح الكثير من الأسئلة وتأمل في الطبيعة والأشخاص من حولك واعمل بكد، لعل الله يوقع في قلبك شيئاً.