قلق السعي إلى المكانة
الشعور بالرضا أو المهانة
إن إحساسنا بالهوية أسير في قبضة أحكام من نعيش بينهم
كثيرون يرون المكانة العالية من بين أفخر وأثمن المتع الدنيوية، وقليلون من يعترفون بذلك!
آلان دي بوتون
المكانة :
يُعرّف آلن دي بوتون المكانة بأنها موقع المرء في المجتمع ، أي قيمة المرء وأهميته في أعين الناس.
تمنح المجتمعاتُ المكانةَ لمجموعات مختلفة من الأشخاص: المحاربين والعائلات العريقة والعلماء والصيادين والأغنياء … وغيرهم .
في الغرب منذ العام 1776 م صارت المكانة تمنح لما يحوزه المرء من المال.
لطالما كانت قيم المكانة موضعا للتبدل المستمر، ينتقي كل مجتمع مجموعةً من الناس ليضعها على رأس سلم المكانة ، بينما ينبذ مجموعة أخرى أو يتجاهلها.
إذا ما أجرينا مسحا عاما على التاريخ سيتبدى لنا طيف واسع ومتنوع من سمات الشرف والتميز حسب اختيار مجتمعات مختلفة في عصور مختلفة.
ففي إسبرطة في اليونان 400 قبل الميلاد، كان الشرف للرجال ذوي الشراسة والعضلات.
بينما في أوروبا الغربية 476-1096م فقد كان القديسون والملتزمون بتعاليم المسيحية ، وبعد تلك الحقبة إلى 1500 م كان الفرسان، وفي البرازيل 1600-1900م كانت أعلى درجات السلم الاجتماعي للرجال الصامتين، فقد ساد اعتقاد بينهم أن الثرثرة توهن القوى!.
قلق المكانة :
قلق خبيث يفسد المساحات الشاسعة في حياتنا، يساورنا خشية فشلنا في مجاراة قيم النجاح التي وضعها مجتمعنا، وخشية من أن نُجرّد من شرف المنزلة نتيجة للفشل، قلقٌ من أن ننزل إلى درجة أدنى عما قريب.
من مثيرات هذا القلق، التقاعد والمقارنة مع الزملاء في المجال نفسه و وسائل التواصل الاجتماعي التي تقدم البارزين والأكثر نجاحا.
قد يعتبر الكشف عن أي قدر من هذا القلق طيشا اجتماعيا، وبالتالي فمن النادر ظهور أدلة على الدراما التي تجري داخل نفوسنا، وغالبا تبقى تلك الأدلة منحصرة في نظرة مهمومة، أو ابتسامة هشة، أو وقفة في الحديث طالت أكثر من اللازم بعد أنباء عن إنجاز حققه شخص آخر.
إذا كان موقعنا في السلم الاجتماعي مصدرا لكل هذا الهم، فذلك لأن صورتنا الذاتية تعتمد بشدة على ما يراه الآخرون فينا.
المهانة :
ومع الإخفاق في تحقيق المكانة تتولد المهانة ، وهي وعي حارق بعجزنا عن إقناع العالم بقيمتنا.
الأسباب
يذكر آلن دي بوتون خمسة أسباب لهذا القلق :
افتقاد الحب
هل شعرت بالسعادة لأن شخصا ما تذكر اسمك، أو وصلتك رسالة تهنئة، ويتعكر مزاجك حين تحدث شخصا وهو شارد الذهن عنك ، أو أن الناس حيوك ببرود.
نعم كلنا كذلك لأننا نسعى “ أن نكون تحت أنظار الآخرين وموضع عنايتهم ، أن نُلاحظ بعين التعاطف والرضا والاستحسان “ <آدم سميث>.
“يخرج الفقير ويدخل من دون أن يُلتفت إليه…، وفي المقابل، فإن الرجل ذا المكانة والتميز ترقبه عيون العالم كله ، الجميع في لهفة إلى رؤيته” <آدم سميث>.
إن الدافع المهيمن وراء رغبتنا في الارتقاء على درجات السلم الاجتماعي قد لا يكون مرتبطا بما نراكمه من سلع مادية أو ما نحوزه من سلطة بقدر ما يرتبط بمقدار الحب الذي نتطلع إليه نتيجةً للمكانة العالية، فما المال والشهرة والسلطة إلا إشارات رمزية للحب والاهتمام ووسائل للحصول عليها وليست أهداف بحد ذاتها.
وما الحب إلا نوع من الاحترام ، أن نشعر أننا جديرون بالتقدير وأننا مهمون، حضورنا مُلاحظ وآراؤنا مسموعة لأننا بحكم طبيعتنا مبتلون بانعدام يقين نحو قيمتنا الذاتية، ونتيجة لذلك ندع تقييمات الآخر لنا تلعب دورا حاسما في الطريقة التي نرى بها أنفسنا، إن إحساسنا بالهوية أسيرٌ في قبضة أحكام من نعيش بينهم.
وكأننا نحتفظ في داخلنا بمجموعة من الرؤى المتعارضة وكأنها خصائص أصلية ولدنا بها، نرصد بدقة العلامات الدالة على الذكاء والغباء والطرفاة والبلادة والأهمية والتفاهة ، وفي قلب حالة اللا يقين هذه غالبا ما نتجه نحو العالم من أجل حسم رؤيتنا عن أنفسنا .
الغطرسة
يؤلمنا الاهتمام المعتمد على شروط خارجية ، لأن أول ذكرياتنا أن نتلقى الحب والاهتمام والرعاية ونحن في حالة من العري والاحتياج ، بينما حين نبلغ سن الرشد تعتمد عاطفة الآخرين على ما ننجز ونقدم، وفي هذه المرحلة قد نكون قريبين من أشخاص متغطرسين ، سلوكهم نحونا يقع في صميم قلقنا على مكانتنا.
إن رفقة المتغطرسين لها القدرة على إثارة غضبنا وتوترنا، لأنها تشعرنا بمقدار ضآلة ذواتنا الداخلية، فطالما لم نستطع الحصول على علامات معترف بها اجتماعيا فسوف يبقى وجودنا بلا أي قيمة في نظر هؤلاء.
التطلع
لا أحد ينكر ما للحضارة الغربية من مزايا واضحة كالأمان المادي ووالزيادة في الثروة والمؤن الغذائية والمعرفة العلمية ، لكن تزامن مع هذه المزايا ظاهرة غريبة ، وهي ارتفاع مستويات قلق المكانة بين المواطنين الغربيين العاديين.
إن حكمنا على الحد الكافي من الثروة والتقدير لا يجيء أبدا مستقلا بنفسه ، بل نصنع تلك المعايير عن طريق مقارنة حالنا بحال مجموعة مرجعية ، إنها جماعة الناس الذين نعتقد أنهم يشبهوننا، فنحن لا نقدر قيمة ما نملك إلا حينما يكون مثلما يملك أشباهنا وأصدقاؤنا أو أكثر، فإن كان ما يملكون أكثر مما نملك تولد الحسد والقلق على المكانة.
لا يتولد الحسد عن التباين الشديد، بل العكس، الحسد وليد التقارب
دافيد هيوم
الكفاءة
في هذا العصر الذي تنامت فيه النزعة المادية وانحسر الإيمان بالغيب والقضاء والقدر ، أصبح النجاح والفشل والتقدير والإهمال يحتكم إلى الكفاءة الفردية بمعزلٍ عن المعايير الأخرى كالأخلاق والإيمان والفضيلة، فالناجح يستحق نجاحه عن جدارة ، والفاشل يستحق فشله عن جدارة ، وأصبح الفشل والفقر أشد عقابية وإحراجا من العصور السابقة.
في السابق لم يكن يرتبط بالنجاح والفشل والغنى والفقر والمكانة العليا والمكانة الدنيا أي دلالة أخلاقية ، فكان مما يعزي الفقراء أن هناك معايير أخرى غير الكفاءة يحتكمون إليها كالأخلاق والإيمان.
الاعتماد
في ظل اقتصاد شرس لا يهدأ ولا يلين، فإن أبرز سمات الصراع لتحقيق المكانة هي الريبة وانعدام اليقين، وهناك خمسة عوامل على الأقل عصية على التوقع يتوقف عليها كسبنا للرزق والاحترام.
الاعتماد على الموهبة المتقلبة
الاعتماد على الحظ
الاعتماد على صاحب العمل
الاعتماد على ربحية صاحب العمل
الاعتماد على الاقتصاد العالمي
القلق هو التابع المخلص للطموح المعاصر
آلان دي بوتون
الحلول
يذكر آلن دي بوتون خمسة حلول لقلق المكانة:
الفلسفة
ينصح الفلاسفة بأن نتبع العلامات الداخلية لوعينا وضمائرنا وليس الإشارات الخارجية للاستحسان والاستهجان، علينا أن نتخلى عن هوسنا الصبياني بحماية ومراقبة مكانتنا.
إن أي موقف أو عبارة قد تؤثر على مكانتنا لابد أن تخضع لاختبار العقل قل أن نسمح لها بالتأثير على أنفسنا.
إن لم يوسع الفن حدود التعاطف الإنساني فلا نفع له من الناحية الأخلاقية
جورج إليوت
الفن
لطالما كان الفن صيحة احتجاج على الأوضاع القائمة، وبالتالي يكون حافزا على تقويم بصيرة الناظر وتعليمه كيف يدرك الجمال ، إن تاريخ الفن حافل بتحديات لنظام المكانة
السياسة
لطالما كانت قيم المكانة موضعا للتبدل المستمر، والكلمة التي نستخدمها لوصف عملية التبدل هي السياسة.
تحاول الجماعات المختلفة والمعارضة أن تغيّر قيم المكانة السائدة في مجتمعاتها ، بشتّى الوسائل، عن طريق شن معركة سياسية أو إضراب أو صندوق الانتخابات أو الكِتاب والمعرفة.