سؤال السعادة والمتعة

«تحقيق السعادة سببًا كافيًا لقيمتها، فكلما ارتفعت نسبة السعادة لديك، كانت قيمتها أكثر ارتفاعًا»

جيرمي بنثام - مؤسس النفعية

قبل البداية، الحمدلله على المدونات الشخصية التي تسمح لي، وتطلق لي العنان بأن أكتب دون رقابة ولا مسؤولية عالية. هكذا أحاديث وتأملات دون رقيب ولا حسيب ولا تتطلب موافقة. قدّمت جوهر هذه المقالة قبل أشهر مع بعض الاختلافات لصحيفة نشر ورفضتها. أُحبطت قليلًا. شاركتها صديق وأخبرني بعدم اختصاصي بعلم الأخلاقيات مثلًا حتى أتجرأ -والعياذ بالله- للكتابة عنه. على أية حال هذه محاولة قراءة ومشاركة وتعليق، لمتأمل بإمكانات متواضعة كما هي إمكانات التعلم عن بعد، اطلع على محاضرة وقرأ مقالات وكتاب واستمع مناقشة، فكر وقرر أن يدون عنه.  

تبدو جملة بنثام الافتتاحية موضع أسئلة ومثار انتباه، أولًا لكونه مؤسس مذهب يتبعه ملايين حول العالم، وثانيًا لأنه يخالف نظريتنا الدينية التي تحط من المتعة "الدنيئة” وغير الأخلاقية والتي عادة ما تذكر بالهوى والبحث عن الملذة، وورد في ذلك آيات وأحاديث كثيرة {أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوه}، وذكر بذلك ابن عباس قوله: ما ذكر الله هوى في القرآن إلا ذمّه. ثالثًا رواج هذه الجملة عمليًا وواقعًا برواج بحث الفرد عن ملذاته وزيادة رواد المتعة والملذة بدعوى تحقيق السعادة. وهذه الدعوى تدعو لتساؤلٍ آخر: هل الدين، وما ذهب إليه النفعيّ الأبرز “ستيوارت ميل” صاحب كتاب النفعية الذي خالف قول أستاذه ومن سبقه: هي دعوى لإبطال السعادة وتحجيمها وعدم تقدير أهميتها؟

تقريبًا، كان هذا السؤال الذي عنون به مايكل ساندل محاضرته الرابعة في “مساق العدالة” لطلاب القانون بجامعة هارفرد: كيف نقيس المتعة والمسرة؟ لمناقشة آراء ميل وبنثام وطرح رأيه الأخلاقي عن كليهما. 
- أنصح بالاطلاع على المساق كاملًا، لمتعته “الأخلاقية/الحقيقية”، وللإثراء المعرفي المترجم. 

للإجابة على هذا السؤال إليك هذه المحادثة القصيرة مع صديق يتبنى رأي بنثام دون وعي منه، 
سألته:
تندم على بعض أفعالك؟ اختصر علي الإجابة: لا، كنت زمان كذا إلا أني اليوم ما أندم، ولا أشوف غير الخواء بأن تندم على شيء فعلته برغبتك وإرادتك، أنا ما أسوي أشياء إلا مقتنع فيها وأبغاها وأشوفها تحقق لي السعادة. على الأقل وقتها تحققت —> إشارة إلى المتع اللحظية. 
هذا ما يرمي إليه بنثام ويؤيده،
مقدار سعادتك هو معيار قيمة فعلك. باعتبار الكم (المقدار) لا النوع (كيف). مثال آخر تتضح به الصورة، نعترف بأننا نتابع The Office لأجل المتعة التي تؤدي للسعادة، ويتابع أطفالنا بيبي شارك دودودو لأجل الضحك والرقص على أنغامها المطربة، نحضر حفلات BTS ويحجز أحدنا مقعده بعشرات آلاف الريالات للجلوس بالمنصة للقرب من مسرح محمد رمضان.. كل هذا لخاطر المتعة. أيضًا نحن نذهب للوڤر في پاريس لنتذوق الفن ونستمتع، ونقرأ الروايات الخالدة لنتأمل النصوص الأدبية العظيمة ونحقق لذواتنا المتعة.. التي تؤدي للسعادة نهاية المطاف. أي هذه المتع أسمى من غيرها؟ يعترف المتعلم بحسب الأكثرية عند إجابته لهذا السؤال، ولو استغرق الساعات لمشاهدة Friends وضحك حتى البكاء مقابل قضائه دقائق قليلة للقراءة للجاحظ، أن فعله الأخير “أسمى” من الذي قبله باعتبار القيمة. 

هذا الدافع الذي أدى لاعتراض ميل على رأي بنثام حول قيمة السعادة، باعتبارها ذات قيمة عليا لدى النفس البشرية، وأنها مسعى كل فرد، فيجدر أن ترتبط قيمتها بمقدار ما تحققه من سعادة للبشرية أجمع. على المدى الطويل الذي يحافظ على إنسانيتهم ويحقق وجودهم. يذكر ميل في كتابه: “أنه تكفي رؤية الناس بأن تلك المتعة هي التي تحقق سعادتهم، وهذا سببًا كافيًا باعتبار المتعة أخلاقية. -إلا أنه يضيف- أن تحديد هذه السعادة والقيمة يأتي من تجربتهم المتع المختلفة وذلك للحكم الصحيح عليها، ولنجعل هذا الحكم صحيحًا ويحقق مقاصد النفعية وسعادة المجتمع الدائمة، علينا أن نؤهلهم للحكم. وهذا التأهيل يتطلب منا تعليمهم، وتهذيبهم، وتثقيفهم. حينها ليس فقط يمكنهم التمييز بين المتع الأعلى والأدنى، بل أنهم سيفضلون تحقيق المتع الأعلى باستمرار.” 

وعند الاطلاع على سيرة ميل، نجد أنه عندما كان طفلًا تلقى أفضل إمكانات التعليم مقارنة بأقرانه، فأتقن اليونانية وعمره ٣ سنوات، واللاتينية وعمره ٨ سنوات، وألف كتابًا حول قانون الرومان وهو ابن العاشرة. عبقري، صحيح؟ لكن للأسف في سن العشرين تعرض لانهيار عصبي واكتئاب رافقه خمس سنوات، إلى أن وقع في حب هارييت تايلور لتنقذه من جحيم اكتئابه.
وبعد هذه السنوات الطويلة من رحلته العامرة، ذكر في كتابه إشارة إلى سالف أيامه اقتباسة تسطر بماء الذهب حول السعادة وآماله التي يسعى إليها:

«من الأفضل أن تكون إنسانًا غير راضٍ بدلًا من  حيوانٍ راضٍ، من الأفضل أن تكون سقراط مستاء بدلاً من أحمقٍ راضٍ، وإذا كان الأحمق أو الحيوان لهما رأيٌ مختلفٌ في ذلك فالسببُ أنَّهم ينظرون للقضيَّة من جهتهم فقط.»

جون ستيوارت ميل

ما قيمة سؤال السعادة اليوم؟

لأنها القيمة الأكثر طلبًا وبحثًا ومدعاةً للقلق الذي يلاحقه أرق، فهي قيمة باقية حتى الفناء. تزداد همية بقدر غيابها وجهل معناها، ونحن اليوم برغم تلك الأطنان من سبل الرفاهية، وانخفاض معدلات الفقر، وتعدد طرق المتعة: نشعر بالملل. نملك كل شيء، حانقون على كل شيء، ممتلئون بالفراغ. وغياب السعادة بكل تأكيد.
رأي ميل في قيمة المتعة، لا يعني مطالبته بزهدنا الخالص من وسائل الرفاهية وعدم الاطلاع على مسلسلاتنا الكوميدية المفضلة نهاية الأسبوع. نعترف بأننا نستسلم لإغراء المتع اللحظية، تفضيل الاتكاء على الأريكة لمطالعة نتفلكس بدلًا من قراءة الشعر، إلا أننا ندرك أثناء قيامنا بها: أنها لحظية. أما عن بلوغنا تلك المرحلة السامية من السعادة الحقيقية، وتوجيه ميل بكتاباته لنا، فهو مبلغ صعب المنال لعدم رؤية نتائجه المباشرة. التي ربما لا تضحكك حتى البكاء حينها.

ما هو معيار القيمة؟ تكمن هذه القيمة بمخاطبة الأفعال ملكاتنا العقلية، وقدرتها على تحريك أفكارنا وبث الأسئلة والسعي للإجابة، وأن نتميز بخطابات المتعة عن الحيوانات التي تحركها الغريزة وحسب. حينها تصبح السعادة العامة هي المحور لحياتنا، السعادة التي لا نحتاج بها إلى الضحك كي تحقق، ولا بالبحث عن الإثارة. وإنما التي عندما نفكر بالمستقبل نجده يليق بآمال الأجيال من بعدنا، والحاضر هو الأكثر رحمة وسكينة وصلابة. حينها أيضًا، نقرر أي وسائل السعادة التي تأخذ الحيز الأكبر من اهتمام صاحب القرار لشعبه والأب لأسرته والفرد لحياته الخاصة. 

Join