تأمّلات في معاني الآيات

 سورة “ق”

بسم الله الرحمن الرحيم. اللهم صلِّ على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجميعن. أردت أن ألقي نظرة على سورة “ق” من التفسير وأعيد طرحها بأسلوب إن شاءالله بسيط ليتسنى للقارئ استحضار المعاني وقت القراءة, ولعله بذلك يحدث التدبر والتفكر بآيات الله ونزدد بها عِلما وعَملا وأجرا.


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

(1) قاف: حرف هجاء. وتسمى الحروف في أوائل السور: الحروف المقطّعة.

هناك [29] سورة في القرآن الكريم تبدأ بالحروف المقطّعة وعدد الحروف بعد إزالة المتكرر منها هو [14] ويمكن تلخيصها بهذه الجملة: (نص حكيم له سر قاطع).

والله أعلم بمرادها. وجودها له فوائد غيبيّة لا ندركها، فهي من عند الله وما يأتي من عند الله نصدّق به جميعا سواءا حصل لنا فهمه أو لا. فالإيمان بالغيب من ضروريّات الإيمان بالله عز وجل كإيماننا بالجنة والنار.

وللتأمّل: الله أوردها لكي يعلم الناس أن هذا القرآن المعجزة مكوّن من حروف الهجاء العربية، أي: نفس اللغة التي يتكلّم بها العرب، وبما أن العرب يبرعون في اللغة وتكوين الجملة -كان عندهم فن الشعر والخطابة والبيان- لذلك تحدّاهم الله بأن يأتوا بمثل هذا القرآن أو بمثل آية واحدة من آياته. وللفائدة: الله يرسل معجزات مع الرسل من نفس نوع مايبرع به قومه. فموسى قومه كانوا يبرعون بالسحر فأعجزهم بالعصا. وعيسى كانوا يبرعون في الطب فمعجزته شفاء المريض. والنبي محمد صلى الله عليه وسلم قومه يبرعون في اللغة فمعجزته اللغة “القرآن والمعاني وجمال البيان”.

(2) والقرآن: حرف الواو يدل على القسم، فيُقسم الله بالقرآن. وما يقسم به الله يعني أهميته. القرآن هو كتاب من الله للرسول محمد صلّ الله عليه وسلم، كما أرسل مع موسى التوراة ومع عيسى الإنجيل. الذي يختلف بين التوراة والإنجيل والقرآن هو أن التوراة والإنجيل لم تكن كتب معجزة، بل كانت كتب إرشادات للناس. وأما المعجزات فهي منفصلة عن التوراة (المعجزة هي إعجازهم بالعصا) والإنجيل (المعجزة هي شفاء المريض) أما القرآن فهو اثنين في واحد: إرشادات ومعجزة في آن واحد.

(3) المجيد: عظيم ، شريف ، عالي ، مرتفع. فهو كتابٌ ماجِد ومُمَجّد. فهو أعلى وأشرف الكلام، وأعلى الكتب المنزّلة من السماء. أتانا من الله المجيد، ونزل مع جبريل ملَك مجيد وعلى رسولٍ مجيد ولأمّة مجيدة.


بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَٰذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ ﴿2﴾

(1) بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم: بما أنهم تعجّبوا منه فمعناه أنهم كذبوه. والشيء العجيب هو الشيء الذي لا نعرف سببه وعلّته، كلاعب خفة اليد عندما يمثّل دوره المسرحي. ولماذا تعجّب الكفّار من القرآن ومن الرسول محمد صلّ الله عليه وسلم؟ لأنهم مكذبون أولا ومكابرين ثانيا مبررهم هو: أنه بشر. لأنهم قالوا في آيات أخرى: لو الذي نزل علينا بالقرآن رسول ملَك من الملائكة لصدّقناه. ولو افترضنا أن الله أرسل للناس ملَك لينذرهم، لوجب على ذلك الملَك أن يتشكّل كالبشر ليستطيع مخاطبة الناس. قال الحق سبحانه في سورة الأنعام: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ (9)}: أي أن والشّك لن يختفي عند هؤلاء المتعجّبين، أي أنهم سيعودون لنقطة البداية بادعاءهم أن هذا بشر مثلنا وليس رسولا من عند الله. ثم إن دين الإسلام دين عمل واقتداء، ولو أن الله أرسل ملكاً رسولا لقالوا: هذا لا نستطيع الاقتداء به لأنه ملَك! ونحن بشر. ولو أرسل الله رسولا من الجنّ لقالوا مثل قولهم. ولكن من رحمة الله أن الرسل هم بشر، يأكلون كما نأكل ويشعرون كما نشعر وينامون كما ننام، فيكون أسهل علينا كبشر الاقتداء بهم والعمل بما كانوا يعملون. ثم إن من رحمة الله أنه لم يرسل لهم أي بشر! بل إنسانا منهم من لحمهم ودمهم. قال الحق سبحانه: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ (128)}. ولم يكتفي بذلك! فقد اختار الله انسانا عرفتموه وألفتموه وشهدتهم سلوكه وشهدتم حياته كلها فوجدتم أنه إنسان سوي قبل أن يكون رسولا. هذه تعتبر ميزة لهم أن الله اختار واحدا منهم ليكون رسولا للعالمين،هذا لا شك تعظيم وتشريف.

(2) فقال الكافرون هذا شيء عجيب: الذي تعجّب من الرسول عليه الصلاة والسلام هم الكفّار المكابرون. أما المؤمنون فهم لم يتعجّبوا أبدا، لأنهم عرفوا صدقه وحسن خلقه وعاشروه وجرّبوه وعلموا صدقه. سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه لما قال له الرسول إني رسول الله، لم يسأل ويجادل لماذا؟ لأنه ماضيه الذي يعرفه له أنه لم يكذب, وبما أنه لم يكذب على الخلق فالأحق أنه لن يكذب على الخالق! فالمؤمنون أخذوا الحق وتقبلوه من صدق نبينا محمد صلّ الله عليه وسلم فقد عاش عمره كله معهم. قال الحق سبحانه: {قُل لَّوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُم بِهِ ۖ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16)}.


Join