تأثير الخيار الإفتراضي

في البداية دعنا نجري فرضية بسيطة، لو افترضنا أن لدينا دولتين، دولة (أ) نسبة التبرع فيها بالأعضاء 99%. وفي دولة (ب)، نسبة التبرع فيها بالأعضاء 12%. في وجهة نظرك، ما هو العامل الذي يُفسر هذا الحجم من الإختلاف بين سكان تلك الدولتين؟


ربما تفكر الآن في اختلاف حجم التعليم، أو التكافل الاجتماعي أو حتى الفرق في ثقافة المجتمع بشكل عام بين كلتا الدولتين. حسنًا، دعني أوضح لك الأمور أكثر. الدولة (أ) في الواقع هي النمسا والدولة (ب) هي ألمانيا. اقتصاد الدولتين متشابه، كذلك التعليم واللغة بالإضافة لحضارة الدولتين و تاريخهما المشترك والمتشابه كثيرًا!


تعتبر ألمانيا دولة حديثة عمرها أقل من 150 سنة، قامت في نهاية الحرب الفرنسية البروسية عام 1871. كذلك لا تختلف النمسا عنها كثيرًا. فعمرها يقارب 200 سنة، حيث ظهرت الإمبراطورية النمساوية عند سقوط الإمبراطورية الرومانية المقدسة في عام 1806، ثم شكلت النمسا مع المجر ملكية مزدوجة في عام 1867 تحت اسم "الإمبراطورية النمساوية المجرية".


في البداية ربما قام عقلك بتحليل وتقديم إجابات منطقية حول سؤال الفرضية أعلاه كون الفارق بين 99% و 12% كبير جدًا، وبسبب ذلك قد بدأ عقلك وبشكل سريع بالتفكير والبحث عن عامل مهم يقف بين تباعد النسبتين. غالبية الناس يدور تفكيرهم حول التعليم والثقافة والاقتصاد حيث أن هذه الأمور هي ما يجعل سلوك الناس يتغير بشكل جذري. لكن الفرق في الحقيقة أبسط من ذلك بكثير!


في ألمانيا والنمسا، لدى المواطن الخيار في أن يتبرع بأعضائه أو لا. الفارق الوحيد بينهما هو أن التبرع بالأعضاء هو الخيار الافتراضي في النمسا، بحيث لو أراد أحد المواطنين أن لا يتبرع بأعضائه، يجب عليه أن يطلب إزالة اسمه من القائمة. بينما الخيار الإفتراضي في ألمانيا هو عدم التبرع، وفي حين أراد أحد المواطنين التبرع يجب عليه ذكر ذلك ووضع اسمه في القائمة. هذا هو الفرق بكل بساطة!


ذلك يشرح لنا تركيبة بسيطة في علم النفس تُستخدم في السياسة والاقتصاد وكذلك التسويق وتجربة المستخدم وهي "تأثير الخيار الافتراضي The Default Effect". تُظهر التجارب والدراسات التي قام بها وليام سامويلسون William Samuelson في 1988 أن جعل الخيار افتراضيًا يزيد من احتمالية اختياره. تأثير الخيار الافتراضي هي ظاهرة نفسية يُفضّل فيها الأفراد الحالة الراهنة من الأمور، وعندما يتوفر لديهم الخيار للخروج من الوضع الراهن، يفضل الغالبية منهم عدم فعل أي شيء والبقاء مع الخيار الافتراضي الذي اعتادوا عليه.


يمكنك تطبيق ذلك على أي مثال موجود حولك. لكن عودًا للمثال السابق، لا أتوقع أن الغالبية في النمسا يريدون التبرع بالأعضاء، كما لا أتوقع أن الغالبية في ألمانيا لا يريدون التبرع بأعضائهم. لكن الغالبية من البشر لا يريدون تغيير الحالة التي هم عليها.


هناك ثلاثة عوامل تُفسر تأثير الخيار الإفتراضي. العامل الأول: دماغك يحاول تقليل الجهد الذهني الذي يمارسه. الإنسان بطبعه يحاول دائمًا البحث عن الطرق المختصرة، فإذا كان الطريق المختصر هو أخذ الخيار الافتراضي، فمرحبًا به، الأهم هو أن لا يقوم الدماغ بالجهد والتفكير حول الخيارات الأخرى! العامل الثاني: تكلفة التغيير! لكي تطلب من الدولة في النمسا مثلًا بأن لا تضع اسمك في قائمة المتبرعين بالأعضاء، يجب عليك مخاطبة الجهة المسؤولة عن ذلك والقيام بعدة خطوات لإتمام الطلب. العامل الثالث: محاولة تفادي الخسارة! عندما تقوم بتغيير وضعك الحالي فسوف تخسر شيء تعرفه واعتدت عليه. لا تدري، فربما تكتسب شيء آخر وقد لا تكتسب أي شيء على الإطلاق! وهذا أمر منطقي لأن الحالة التي نكون عليها هي حالة معلومة ومضمونة، بينما الحالة التي نريد الحصول عليها هي احتمالية، لا نعلم فعلًا هل سنحصل من خلالها على خيار أفضل مما سبق أم لا!


نرى تطبيق هذا الأمر في التسويق بشكل كبير، فعندما تذهب لمطعم وجبات سريعة، الخيار الافتراضي هو الحصول على وجبة كاملة: برجر ومشروب غازي وبطاطس. بينما لو أردت البرجر فقط من دون وجبة كاملة، فيجب عليك التنويه لذلك عند تقديم الطلب. أيضًا وفي مثال أكثر وضوحًا، قد تقوم بالاشتراك لمدة شهر واحد فقط في أحد عروض الباقات المقدمة من أحد شركات الاتصالات ومزودي خدمات الإنترنت، لكن بعد فترة تلاحظ إرتفاع في مبلغ الفاتورة  أكثر من المعتاد، ثم تتفاجأ بأن الباقة التي قمت بإضافتها قبل عدة أشهر يقوم النظام تلقائيًا بتجديدها نهاية كل شهر كخيار افتراضي مالم تقم بمراسلة مزود الخدمة وإخباره بإيقاف الاشتراك. فكّر كذلك في كل الرسائل المزعجة التي تأتيك عبر البريد الالكتروني. لديك الخيار لإلغاء الاشتراك في تلك النشرات البريدية التي ربما تنزعج منها كثيرًا، لكنك قد تتجاهل ذلك في كل مرة وتذهب مع الخيار الافتراضي.


عندما يقوم المجتمع بتصرف ما، أو التفكير بطريقة محددة، الغالبية من الناس يعتقدون أن هذه هي الفكرة الافتراضية التي عليهم التفكير بها والقيام بعملها.


هذا الأمر لا ينحصر على المستوى الفردي فقط، بل ينطبق على المجتمعات أيضًا وبشكل كبير تحت ما يسمى بـ "المفهوم الافتراضي". فالناس تقوم بتقليد التصرفات التي تحدث حولها من أناس آخرين. عندما يقوم المجتمع بتصرف ما، أو التفكير بطريقة محددة، الغالبية من الناس يعتقدون أن هذه هي الفكرة الافتراضية التي عليهم التفكير بها والقيام بعملها. في المجتمعات ، الخيار المعياري (ما يفعله الآخرون) يمكن أن يُعتمد دون وعي تحت تأثير الجماعة  الافتراضي. وبالتالي فإن الناس عندما يتحتّم عليهم اتخاذ قرار تجاه أمر ما، فإنهم يكونون أكثر عرضة لمراقبة ما قد يختاره الآخرون، حتى لو كانوا يعتقدون أن أولئك الآخرين ليسوا هم الأشخاص الأكثر دراية في ذلك الأمر. كما أن الناس أكثر عرضة للتعامل مع الاختيارات التي تتطلب تبريرا أقل كخيار افتراضي. هناك عدة أمثلة يمكن أن تجدها في مجتمعك على مستوى السياسة، والاقتصاد، والتجارة، والعادات الاجتماعية وحتى القرارات والأنشطة اليومية البسيطة.


كم عدد الأشخاص أو الحسابات التي تقوم بمتابعتها في الشبكات الاجتماعية والذين لم تقرأ لهم أو تشاهد محتواهم منذ سنة أو أكثر من ذلك؟ أو ربما كنت لا تقرأ ولا تشاهد ما يقدمونه في حساباتهم إطلاقًا، بل قمت بمتابعتهم فقط لأن الناس الذين تعرفهم يفعلون ذلك!


هل استخدام  الخيار الافتراضي قانوني على كل حال؟


محاولة الإستفادة من هذه الفكرة عبر وضع خيارات افتراضية مخادعة للناس قد يكون له آثاره الأخلاقية والقانونية. تجاريًا، قد يكون من اللاأخلاقي أن يوافق العملاء على اتفاقيات قانونية معينة أو شراء منتجات وخدمات لم يختاروها بإرادتهم المطلقة. على سبيل المثال، البنك الذي يقاطع العملاء فور تسجيل دخولهم للموقع الالكتروني عبر ظهور نافذة في منتصف الشاشة تسأل العملاء إن كانوا يريدون ترقية خدماتهم إلى باقة رسوم جديدة أكثر تكلفة. في النافذة  الظاهرة في منتصف الشاشة، هناك زر كبير لقبول الرسوم الجديدة (نعم) ووصلة نصية صغيرة لتجنب العرض (لا). كثير من الناس سوف ينقرون على الزر الكبير لأنهم يريدون للنافذة الظاهرة أن تختفي بسرعة. إن أخلاقيات مثل هذه التقنية وغيرها لتوجيه العملاء نحو عملية شراء هو أمر قد يكون من الأجدى المساءلة فيه. بالتأكيد لابد للناس أن يكونوا أكثر وعيًا لذلك، لكن إجراء كهذا لابد أن يكون أكثر أخلاقيًا أيضًا.



هذه المقالة كُتبت في 13 أغسطس 2017 ونُشرت في منصة أخرى، ونقلتها هنا مؤخرًا.

Join