التفكير النقدي: ما تعتقده قد يكون خاطئًا!

“أعطِ شخصًا سمكة وسوف يأكلها اليوم، علمّهُ كيف يصطاد السمك ولن يشعر بعدها بالجوع”


الأمثال من هذا القبيل تذكرنا بتأثير مهارات التعلم على التحرّك نحو الاعتماد على الذات، وهذا ليس مختلفًا عن التفكير النقدي، احفظ حلّ مشكلةٍ ما مرارًا وتكرارًا وسوف تكون ماهرًا في حلها دائمًا! طوّر طريقة التفكير النقدي الخاصة بك، وسوف تعطي لنفسك الأدوات اللازمة لخلق حلولٍ فعّالة لمشاكل متعددة غير مألوفة! ألاحظت الفرق؟


يشير التفكير النقدي إلى مجموعة متنوعة من الطاقات الفكرية والأنشطة المتعلقة بتقييم المعلومات -وكذلك أفكارنا الخاصة- بطريقة منضبطة، عندما نكون مستعدين وقادرين على فحص قدراتنا الخاصة كمفكرين ونعترف بالمشاكل والضعف، ذلك يمكن أن يساعدنا على تحسين عمليات التفكير لدينا، حتى يتسنى لنا تعلم التفكير بطريقة مختلفة وتقييم المعلومات بطريقة أكثر شمولًا والتي تزيد من قدرتنا على تحديد ورفض الأفكار الكاذبة والأيديولوجيات السياسية والاجتماعية وحتى العقائدية.


بالإشارة لكلمة “مفكرين” التي تم ذكرها في السياق السابق، هي ليست صفة خاصة بمجموعة من الناس دون سواهم، وإنما هي وصف للبشر عمومًا. يُسمى الإنسان مُفكرًا كونه ليس كالحيوان رغم الاحترام الكامل للحيوان الذي يملك مشاعر وأحاسيس تتحكم بسلوكه العام، لكن الإنسان يتميز بامتلاكه عقلًا نقديًّا ليفكر ويحلل الأمور وفق ما يراه، ولذا فإن عقل الإنسان كما يذكر الباحثون يمر في يومه الواحد بما معدله 50 ألف فكرة. فالعقل كأحد أنشطة الدماغ وبالرغم من اختلاف العلماء والباحثين على تعريفه إلا أنهم يتفقون في الغالب بأنه مجموعة من القوى المعرفية بما في ذلك الوعي ثم الإدراك، والتفكير، والحكم على الموقف، فهو يحمل قوة التخيّل، والتحليل ثم التقييم، وهو المسؤول عن معالجة المشاعر والعواطف، والتي تؤدي إلى مواقفَ وسلوكيّاتٍ وإجراءات.

ما زال يعيش في الماضي!


التفكير النقدي لا يعبر عن إطالة التفكير، بل قد ينفق الشخص قدرًا كبيرًا من الطاقة الفكرية يدافع عن موقف معيب، أو يسعى إلى إجابة سؤالٍ في عقله يحتاج فعلًا إلى إعادة صياغة قبل أن يبدأ بالبحث عن الجواب في الأساس.


التفكير النقدي هو التحليل الموضوعي للحقائق لتشكيل حكم حول أمر ما، بيد أن الحديث ليس عن أساليب التفكير النقدي وخطواته وإنما من أعظم الواجبات في الحياة وفي ظل هذا الانفتاح المعرفي والمعلوماتي المهول على وجه الخصوص هو رفع الوعي حول أهمية التفكير النقدي الصحيح وتعليمه لأجيال المستقبل؛ ففي غياب التفكير النقدي، والخوف من السؤال، يسود خطاب الجهل المُكهنت والمُؤدلج الذي يعتمد على النقل ويعارض أبسط قواعد العقل.


إذا كان الإنسان يعيش معتمدًا فقط على المعرفة الإنسانية المسبقة ووفقًا لمبادئ معينة ومعايير تقليدية وأفكار وقناعات افتراضية إذن فهو ما زال يعيش في الماضي! لن يمتلك المعرفة الجديدة أو يفهمها بتعامله مع الأشياء من حوله مستعملًا تعاريف مسبقة صِيغت في زمن وظروف مختلفة وبإمكانيات معرفية واستطلاعية أقل عن إمكانياته.


ربما كان أسيرًا لكتابٍ أو اعتقادٍ أو قناعةٍ أو شخصٍ بعينه والأخيرة تبدو وصفًا مناسبًا لكثير من الناس في بعض المجتمعات اليوم، الذين يُقدسون الأشخاص ويفضلون إغلاق عقولهم في الأدراج كي لا تزعجهم كثرة الأفكار، وهي الصفة الإنسانية الخالصة، ومحاولة ربط الأفواه ومهاجمة من يحاول إخراج عقله من ذاك المكان! حيث أن بعضًا من تلك الرؤوس الخالية من العقول يصعب عليها قبول الأفكار المختلفة بأي أدلة عقلية يحاول بها أصحابهم بما يملكونه من منطق؛ والسبب ببساطة أنهم نسوا عقولهم يملؤها الغبار من أطرافها، وأضاعوا مفتاح القفل! بل ذلك يأتي حتى على النظريات والقواعد والآراء والأفكار الفلسفية.


الشك بداية المعرفة


اليقظة هي امتلاك مساحة صافية لا تمتلك حكمًا مسبقًا على الأشياء، بتعبير أكثر وضوحًا، ليست ملزمة على الأحكام المسبقة لاتباعها، فالشك هو بداية المعرفة، الذي يؤدي للبحث والتمحيص ومحاولة فهم الأمور بتجريدها من أشيائها والنظر إليها بعين الناقد بصورة لا تشكلها كحقائق نهائية لا تقبل الجدل.


لو حاولت بجميع ما تملكه من منطق في عملية إقناع شخصٍ بفكرةٍِ ما، وجمعت كل كتبك وأبحاثك ومراجعك وحولتها إلى طاقة عقلية ذرية وفجرتها في أبهر أساليب المنطق والإقناع، ستبقى عاجزًا عن إقناعه! وليس ذلك لأن الحجة ضعيفة، بل ربما كانت قوية لا يملك ذلك الإنسان عقلًا قادرًا على احتوائها. بل لأنه تم تشكيل عقله ضمن قوالب فكرية محددة يصعب عليها قبول أفكار مختلفة عن السائد، وهذه الفكرة بحد ذاتها تعمل على إهمال العقل وغلق المساحات لتدفق الأفكار الجديدة، يسميها بعضهم بـ “الأفكار الدخيلة”! فحتى لو كانت الأدلة والبراهين العلمية تثبت ذلك، لكنه غير مستعد لقبولها فقط لأنها تتصادم مع قناعاته الإيمانية أو الاجتماعية أو التقليدية.


لهذا المصطلح دلالة قوية على الإغلاق المحكم المسبق للعقل، والاستغراب من تبني أفكار جديدة كونها وبطريقةٍ ما تصبح “دخيلة” وبالتالي لا يسمح لها أصلًا بالدخول، فيغدو العقل بذلك قديمًا، مهترئًا، تشوبه الشوائب، لا يتحرك إلا بصعوبة بالغة ولا يستقبل إلا بعسر فضلًا عن عملية الإقناع الطويلة والمرهقة. آلة التفكير تعمل لديه فقط للبحث عن أساليب تبرير جديدة تمكنه من الاستمرار في التوافق والتلاؤم مع نفس الأفكار والقناعات القديمة المترسبة، هذا الإنسان في مجتمعه هو أكثر الأفراد مطالبةً بكل شيء وأكثرهم إستغناءً عن كل شيء. إحتياجاته والاستجابة لها لا معنى لها. الأهم من ذلك هو أن هؤلاء الأشخاص موجودون في حياتنا وجودًا مباشرًا وغير مباشر، قد يكونون على التلفاز أو في الغرفة التي تجمعنا أو حتى على أغلفة الكتب، طريقة تفكيرهم تلك هي نتيجة لتهميش العقل منذ الصغر وعدم الاكتراث به، بل ومحاولة تشكيله وتصميمه غالبًا لكي يتعايش مع القطيع، يحمل ذات الأفكار والقناعات الإفتراضية.


الإنسان يناقش العالم برأيه لا برأي غيره


لذا فإن التفكير النقدي بأساليبه و مفهومه البسيط ينسف كل ذلك ويكوّن جدارًا مضادًا للتشوهات الفكرية والمعرفية، ومحركًا فعّالًا لعملية التفكير والخروج عن المألوف والإيمان المطلق بأن كل ما يقال وتمت دراسته قد لا يكون صحيحًا على الدوام في كل الأزمنة والظروف. والأكثر أهمية هو ما يمنحه من إرادة ذاتية وحرية فكرية في كيفية إختيار رموز وأشكال جديدة تضع العقل على حافة المعرفة، لاسترجاع الإثارة والفضول التي منحتنا إياها الحياة في أوائل تشكيل العقل في الصغر، لتكوين حرية نافعة لأنفسنا و بلداننا ومجتمعاتنا.


الإنسان يناقش العالم برأيه لا برأي غيره، وبنظرياته وقراءته واطّلاعه وليس بجموده وتعصبه الفكري. الحرية لا تأتي قِفرًا ولا بالحرب ولكن بالتفاعل المستمر مع العلم والفن والأفكار والتقدم الصناعي والتجارب والنظريات. لم تأتي الصناعات ولم يتقدم العلم ولم تتطور التقنية اليوم إلا من الأفكار ونقد تلك الأفكار نقدًا منهجيًا صحيحًا، والخروج بحلول مختلفة. لذلك فالعلم قد يُخطئ أحيانًا، لكنه يعترف بأخطائه ويصححها وهذه جرأة ومصداقيّة لا تمتلكها أي مدرسة أخرى. الإنسان يعيش حياته مبنية على ذلك، وقد يحاول الشخص تقليل تدفق الأفكار والتساؤلات إلى عقله لكنه لا يستطيع إيقاف تدفقها نهائيًا.


التفكير النقدي هو مهارة أكاديمية أساسية موجودة في كثير من الدول، تُعلّم الطلاب الجامعيين وطلاب الدراسات العليا على التساؤل وتقودهم للتفكير في المعرفة والمعلومات الخاصة المقدمة لهم عبر نظريات وتجارب علمية، عن طريق محاولة نقدها ومناقشتها بطريقة علمية تساعدهم على البحث والمعرفة. هذه المهارة يدرسها الطلاب في أول فصل دراسي لهم في الجامعة وهي موجودة في كل التخصصات والعلوم، كأحد المواد الأساسية، باستعمال أدوات خاصة لتحليل التخصص نفسه ونقد أفكاره ونظرياته.


التفكير النقدي ليس بالمعنى السطحي للمصطلح وذلك بإطلاق أحكام لا تستند على إثباتات منطقية، بل هناك العديد من التعريفات له، لكن وفقًا لباري باير Barry K. Beyer 1995، التفكير النقدي يعني “اتخاذ أحكام واضحة، ذات رؤية وأدلة منطقية”. ويُعرّف التفكير النقدي في التعليم الصحي والبدني في مناهج نيوزيلندا (1999) بأنه:

“فحص، واستجواب، وتقييم، وتحدي الافتراضات المتخذة بشأن القضايا والممارسات”

المفكر النقدي الناجح يطرح التساؤلات التي تمكنه من إدراك المعرفة الحقيقية، ويرفض الأدلة القصصية أو غير العلمية ويفحص مصدر كل معلومة، من الواجب أن يكون منفتحًا ومستنيرًا ومتجردًا من أي مشاعر أو اعتقادات وأفكار يمكن أن تشوّش رؤيته، ليكون قادرًا على الحكم على نوعية الحجة ورسم استنتاجاته بحذر شديد على الأدلة أثناء عملية البحث والتفكير. وتلك الطريقة من العمل تمكنه كإنسان يعيش في مجتمعه و كطالب جامعي من إنتاج مقالاته و أوراقه البحثية وحتى بناء آرائه وإطلاق أحكامه بعيدًا عن التحيز الشخصي أو المجتمعي أو العاطفي. وهذه العملية تسمى في المجال الأكاديمي بـ اللا دراية المعرفية، حيث يقوم الباحث بالبحث والاستنتاج من دون الاعتماد على أفكار مسبقة قدر الإمكان ويجعل الأدلة هي من تقوده.


كتبت راتشيل بولستاد (Rachel Bolstad) وروزيماري هيبكينز (Rosemary Hipkins) من المجلس النيوزيلندي للبحوث العلمية والتربوية ورقة قدمت في مؤتمر الرابطة الأسترالية للبحوث العلمية (ASERA)، في 6-9 يوليو من عام 2005، تتحدث عن أنه قد حان الوقت لتعليم التفكير النقدي لطلاب الثانوية العامة وليس فقط طلاب الجامعات، لتطوير مهارات الطلاب في “التفكير النقدي”، واستخدام السياقات العلمية الاجتماعية للتعلم.


إن استخدام مهارة التفكير الناقد تساهم في بناء الوعي المعرفي للإنسان، وتساعده على تجنب فخ التضليل المعرفي، والإثارة الإعلامية، بل والتسمم الإعلامي. كما تساعد على فرز وتحليل المعلومات التي يتلقاها بطريقة منطقيّة صحيحة وأكثر جودةً والتمييز بين ما هو سلبي ورديء، وما هو إيجابي ونافع، وما بينهما.


كما أنها تدفع الإنسان بأن يكون متلقّيًا إيجابيًّا قادرًا على انتقاء المضمون وتحليله وتقويمه، في أوقات الحروب، والصراعات، والأزمات، والأحداث الكبرى حول العالم، بل وحتى الظواهر المجتمعية اليومية. وتزداد أهمية التفكير الناقد في التعامل مع وسائل الإعلام اليوم، بمنافذها المتعددة والتي تتوسع مع تقدم استخدامات التقنية وتطورها، بالإضافة إلى أن تعلم التفكير النقدي وتدريسه للطلاب في الجامعات وحتى مدارس الثانوية العامة ورفع الوعي حول أهميته يحثُّ الأفراد في المجتمع الواحد على البحث والمعرفة والاطّلاع وفحص المعلومات عند استقبالها، قبل مهاجمتها أو الإيمان بها والدفاع عنها كمعلومات نهائية وحقائق لا تقبل النقاش، وبالتالي ينعكس أثر ذلك على تغذية العقول في المجتمعات ويعمل على تنمية بلدانهم وتقدمها المعرفي والفكري الذي يساعد بتناسب طرديٍّ على تحسين جودة الإنتاج مما يجعلها في مصافي البلدان المتقدمة والمنتجة تستشرف المستقبل وتسعى له.


هل المجتمع خالٍ من المشاكل؟


في المجتمعات العربية، تكثر النقاشات والآراء المتطرفة والوسطيّة حول الأفكار والدين والمجتمع والأنماط الحياتية، تلك النقاشات تتحول دائمًا إلى صراعات فكرية غير إيجابية لا تخدم المجتمع كما ينبغي، بل قد تحوله إلى مجتمع سلبي مليء بالتناقضات.

نجد ذلك كثيرًا في الشبكات الاجتماعية -مثل تويتر وفيسبوك وغيرها- المليئة بالنقاشات الطويلة المتفرعة والمتشعبة، والانتقادات السلبية القاسية، والتي تتحول في نهاية الأمر إلى تشخيص الأمور عبر إسقاط أشخاص وتصدير آخرين وتجييش الحشود في معارك بين وجهات نظر مختلفة غالبًا ما تُبنى بطريقة خاطئة. تلك الآراء النقدية حول أمور كثيرة تأتي غالبًا عبر مغالطات منطقية سببها انعدام التفكير النقدي الصحيح، بل الجهل به تمامًا.


المغالطة المنطقية هي خطأ في التفكير والاستدلال. فعندما يتبنى شخصٌ ما موقفًا، أو يحاول إقناع شخصٍ آخر بتبني موقفٍ معيّنٍ استنادًا إلى استنتاج منطقي سيء، فهو يرتكب مغالطة. فحتى لو كانت كل المعطيات للحجة صحيحة، فمن الممكن أن تكون غير سليمة عندما يكون المنطق الذي تم استخدامه فيها معوجًّا، هناك أنواع كثيرة من المغالطات المنطقية لا يسع المجال لذكرها هنا.


عندما يحمل الشخص فكرًا نقديًا بطريقة منهجية صحيحة، يصعب حينها خداعه أو تمرير أفكار معينة إلى عقله ثم الإيمان بها بلا وعي. سيعمل التفكير النقدي لديه على بحث الأدلة وفحص المصادر لتلك المعلومات والحجج قبل الأخذ بها بشكل نهائي. بالإضافة إلى تطوير مهارته في خلق حلولٍ فعّالة لمشاكل متعددة غير مألوفة.

هذه المقالة كُتبت في 2 أكتوبر 2017 ونُشرت في منصة أخرى، ونقلتها هنا مؤخرًا.

Join