عن كلمة عامرٌ.. 

قبل أن أغوص في سحر كلمة عامرُ لا بد أن أعود إلى حيث وُلدت هذه الكلمة في واحدة من أعذب القصائد وأصدقها شعورًا فيقول البيت الشهير:

فليت الذي بيني وبينك عامرٌ

وبيني وبين العالمين خرابُ

هذه الأبيات تُنسب إلى الحسين بن منصور الحلاج، أبو مغيث، فيلسوف، يعد تارة من كبار المتعبدين، وتارة من زمرة الملحدين، واحيانًا تُنسب إلى آخرين من العشاق أو المتصوفة، وقد اشتهرت لاحقًا كجزء من الأدب الصوفي العميق.

وهي قصيدة تتحدث عن علاقة العبد بربه، أو عن حب الإنسان لإنسان آخر بشكل مطلق صافٍ، لا يخضع لقوانين العالم ولا يعترف بحساباته.

والمعنى الجوهري في القصيدة بسيط وعظيم في نفس الوقت.. لا أريد من العالم شيئا، كل ما أريده أن تظل أنت قريبا.. متصلاً.. عامراً بيني وبينك الحب والصفاء

بيني وبينك عامرٌ


كلمة صغيرة.. حرفان مشددان.. لكن حين توضع بالجُمل تتحول إلى جسر ممتد..
فكلمة عامرُ تعني:

حيّ.. نابض.. مزهر.. مملوء بالسكينة.. يعني أن ما بيننا ليس مجرد علاقة، بل وطن صغير لا تهدمة الحروب الخارجية، حتى ولو خربت الدنيا، إذا كنت انت بخير معي فكل شيء آخر يهون

ولهذا السبب حين قرأت هذه الكلمة للمرة الأولى، لمست في داخلي أوتارا لم أكن أعرف أنها موجودة، أحسست أني كنت أبحث طوال حياتي عن شيء عامر.. بيني وبين شخص.. بيني وبين فكرة.. أو حتى بيني وبين ذاتي.

كلمة عامرٌ صارت بالنسبة لي اختصارا لحلم طويل من الأنس والحب والهدوء.

لماذا أثرت عليّ هذه الكلمة بهذا العمق؟


لأننا جميعا في قلوبنا نعرف أن الحياة مليئة بالخسارات، علاقات تتأكل.. وعود تُنسى.. أحلام تموت.. وفي وسط هذا الخراب العام كل ما يريده الإنسان في النهاية هو أن يكون هناك شيء واحد.. مكان واحد.. قلب واحد.. يظل عامراً.
لا يهدمه الزمن، ولا تخونه الفصول، أثرت الكلمة عليّ لأنها قالت كل ما شعرت به، بأبسط وأصدق ما يمكن، أن نملك شيئا عامراً هو أثمن من أن تملك العالم كله.

في فيلم The Secret of Walter Mitty، هناك لحظة هادئة جدا حين يقول المصور العظيم لـــ والتر

Beautiful things don’t ask for attention

الأشياء الجميلة لا تطلب الانتباه

وهكذا هو الحب العامر، الصداقة العامرة، الروح العامرة، لا تتطلب ضجيجا ولا إثباتاً، تكون موجودة بهدوء، لكنها تحمل في داخلها كل الحياة.

لكن..

هل هذه الكلمات خُلقت لتعيش في القصائد فقط؟

فليت الذي بيني وبينك عامرٌ.. أهي أمنية لا مكان لها خارج الشعر؟

ربما.. لكن مع الوقت ندرك ان العامر ليس دائما دليل سلام، فقد تظل العلاقات لكنها خاوية.. نألف الغياب، ونُتقن التعايش مع الفتور، ونقنع أنفسنا أن هذا هو الحب حين ينضج.. بينما هو يحتضر.

وفي النهاية.. لا تبقى ألا القصائد، تقول ما عجزنا عن قوله، وتحمل عنّا خيباتنا، وتمنحنا وهمًا جميلا.. أن الذي بيننا كان يوما عامرًا ولو في بيت من الشعر.