كورونا هل حبّونـا؟
اجتاحتنا هذه الجائحة العظيمة، في ظرف يوم وليلة، وقد كانت التغيرات أكثر بكثير من أن نستوعبها دفعة واحدة.
كورونا.. وحيواتنا
لو يقول لنا أحد ما "تخيّل" أن تتعطل الحياة بعدة أشكالها -حتى إشعار آخر- ما صدقناه، لكن الحقيقة أن هذا الخيال هو ما عشناه قريبا، ترامى شكل حياتنا الجديد علينا وهو يصر علينا أن كل شيء تغيّر ويتغيّر.. حسنًا، نحن المهوسين بالروتين ماذا عنّا؟
ينجو الإنسان بمهارة التكيف العالية التي يمنحها الله إياها، ويصل به الأمر للتعايش، سواء طال هذا التصالح أم قصر لأنها حيلة مجدية، حتى أننا اعتدنا هذا الروتين المنتشر في أجواءه صخب الجائحة.
وبينما فظاعة ما نستقبله كل يوم حاضرة كان هناك شيء غريب لطيف فائق، تعدّى محاولاتنا لتحسّس أي شيء مألوف في حياتنا، شيء يجيء بصفاوة، بنقاوة، بتجلّي.. ذلك الشعور المطلق بالتسليم والتوكل، وهذا ما أبقى على عقولنا بالتأكيد.
سيعاد تعريف الحياة في عقولنا بعد هذه المرحلة لا محالة، فهذا الركون في الفراغ مع الأفكار.. حد التأمل والاستشعار واليقين بحلاوة الماضي البسيط الذي عشناه، وقيمة ما بأيدينا الآن من أشياء استطاعت غلبة غرابة كل شيء، والرؤية الضبابية للمستقبل نعم، لكنها بواقعية واضحة وأحلام لطيفة، إضافة للأشياء الجديدة في منطقتنا الآمنة كلها إعادة برمجة لأرواحنا وقلوبنا وعقولنا وسلوكنا تجاه الحياة، وهذه المواجهة متفردة إذ لم نحظى بمثلها في الشكل أو بالأثر قط. سينشأ مفهوم الحدود والبيون الملموسة، حتى بين أحلامنا المؤذية، أو الرغبات المحتملة، سنكون أكثر حدودا مع الحياة، وأكثر اتصالا بقرب مع ذواتنا، ليس لأن المحيط لا يعنينا وإنما لأنه من مسؤوليتنا البدء بحماية أنفسنا ثم تتوالى مسؤوليات الحذر تجاه مجتمعنا وأفراده.
كورونا.. وكلماتنا
مرّت علينا خلال هذه الفترة الكثير من الكلمات الجديدة أو التي لتونا انتبهنا لها في نصوص المخاطبة المستحدثة، المرئية والمسموعة والمقروءة، الهادئة واللاهثة، المفصّلة والمجملة، المفهومة والمبهمة؛ كلمات أرعبتنا، كلمات طمّنتنا بغض النظر عن نبرة الكلام كاملا.
للكلمات وقع خاص ومحدد بانطباع الكلمة المعروف أو حضورها في سياق معين، أو متلقٍ بعينه. بل إن وصف وتعبير الناس عن هذه الفترة يختلف باختلاف كلماتهم، وانطباعاتهم، وحتى براعة قصصهم وتسلسل أحاديثهم عنها، مع أن الحدث واحد علينا جميعًا. صرنا نستخدم هذه الكلمات الجديدة في طيّات أحاديثنا العادية بطريقة ذكية ومضحكة، على سبيل المثال أن أمي بدل أن تقول لأخوتي المتحلّقين بتقارب على جهاز الجوال: ببساطة "ابتعدوا عنه" قالت: "إنتوا الحين ورا ما عندكم -تباعــــد-؟"
للكلمات أثرها، وتتباين نوعية تأثيراتها علينا في أفكارنا وسلوكنا واستخداماتنا حتى، لأن وصولها إلينا في القوام المناسب بحد ذاته يعني قوّة حقيقية.
But words are more powerful than anything.
― Jennifer Donnelly
وبالنظر لتجربتنا السابقة مع الكلمات في أزمة كورونا فهي تجربة ملفتة للنظر، فقد هالنا تعبير الـ"تعليق" لنشاطاتنا الدينية والحيوية، وبقيت أعيننا شاخصة في الفراغ مع تكرارات "حتى إشعار آخر" وشعرنا باستجداءات حرية أيامنا العادية بصمت مولع مع تموجات "حظر جزئي" إلى تسونامي "الحظر الكلي".
نحن الذين نحب بيوتنا ونتوق لهذا السَكن الحنون دائما فيها ضاق بنا إصرار "الحجر المنزلي" ومع ذلك وجدنا فيها بعدا أعمق للإيواء في هذه اللأواء.
حاولنا مرارا على مدار حزم أيام امتدت لشهور متتالية ألا نسمع أعدادا جديدة من "الوفيّات" عليهم رحمة الله، وكنا نفتعل السمع والقراءة مليون مرة لحالات "التعافي" ونضع أيدينا على قلوبنا عند حالات "الإصابة" ونتوتر مثل عزف سيء عند الحالات "الحرجـة".
أصبحنا نتوخى بحذر مهوس بالإجراءات الـ "احترازية" وعرفنا نظامًا جديدا في "غسل اليدين" كل دقيقة مثلا.. وأحيانا بالثواني! جفّت أيادينا مثل هذا الانتظار الطويل بلا نهاية محددة.
تخيل أن تنتظر وأنت تنتظر في انتظار طويل بلا دلالات ولو كانت صغيرة عن ميعاد انتهاء هذا الانتظار.. هرعنا نمدّ أذرعنا بكل ما فينا من قدرة على الاستطالة حتى نلمس أحبابنا من خلف الشاشات ونحن نكلمهم "عن بعد" ولكننا لم نصل، لكن الذي وصل كلماتنا.
تحولنا تحولا جذريا من أن يكون كل شيء عن قرب إلى أن يكون بهذه "المسافة" التي أكلت من أرواحنا وزرعت فينا آفة المسافة، حتى طوّعناها لتكون ربيعا أخضرا ودروبًا مشجرة يمينا وشمالا.
هذا "التباعد الاجتماعي" جعل من بيننا الفجوات المستنكرة كأننا نهرب من بعضنا، مع أننا كنا نتمنى هذه المساحة إلا أنها بفعل العدوى أصبحت -نفورا- صحيًّا! وتناسينا عطب أمزجتنا التي كانت ترغب بالمساحات بيننا وبين الناس تحفظا وراحة، ورغما عن تباعدنا إلا أن طرف علم "طرف العلم" كان تلويحة لأمل محتمل وأحيانا مختلق، وقاربَنا تداول هذا العِلم كعَلم سلام مرجوّ يرفع قبالة هذا الشرس "كورونـا"
وبالمرور عليه ونحن لم نمر وحسب، فهي لوحدها كلمة مختلفة تماما، كلمة فتحت أبواب كل هذا على مصراعيــه! لم تكن لدينا فرصة التعارف، بل كان هجومًا لا مرئيا حرك الكلمات والأفعال وقلب الدنيا رأسًا على عقب.
ولا ندري هل جزيئات الكورونا حبّونا لهذا الحد؟ نزعم على الدوام بأننا لا نستحق هذا القدر الكبير من الحب، خاصة في حين أننا لا نبادلهم إياه على الإطلاق.
على كلٍ،
ونحن في هذا لا نزعم، بل نتيقن
ونتخطى، ويتخطى كل هذه المأساة خبر سعيد،
"رفع التجول"
"عودة الحياة الطبيعية" يا إلهي إنها نهاية الانتظار!
مرحبا بالحياة من جديد، بشكلها الجديد، ونحن الجدد بالمعاني التي خلّفتها فينا هذه المرحلة، مرحبًا بالحياة.
ليلة ٢٩ شوال ١٤٤١ | ٢١ يونيو ٢٠٢٠ - آخر ليلة من ليالي الحجر المنزلي.