هل الكفر سببُ الإهلاك؟!
تساؤل
قد يكون سؤالاً غريباً، فنحن نعلم مصير قومَ نوح وهود وصالح ولوط وغيرهم من الأنبياء -عليهم السلام- حين كذّبوا رسلهم وأنكروا رسالاتهم فكان نتيجةَ ذلك إهلاكهم بطريقة أو بأخرى. فجواب السؤال واضح ومعروف.
لكن دعني آخذك في رحلة مع بعض آيات الكتاب الكريم، والتي تتحدث عن الإهلاك:
يقول الله تعالى : "ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ"الأنعام: 131 وأيضاً:
"وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ ٱلْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ "هود 117،
وفي آيةٍ ثالثة:" وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59) " القصص 59 .
لاحظ أن تلك الآيات تشير إلى قاعدةٍ إلهية وسنةٍ كونية لتصديرها بـ "وما كان ربك .." و"ذلك أن لم يكن ربك.." وكلا التعبيرين يشران بوضوح إلى كون تلك سنة ربانية غير قابلة للتبديل ولا للتحويل.
ومن الآيات يمكن القول مراحل الإهلاك على النحو التالي:
v بعث الرسول يتلو الآيات لإزالة الغفلة وبيان الرسالة.
v استمرار ظلم أهل القرية وتقزيم الُمصلحين وإبعادهم عن الساحة المؤثرة، وربما قتلهم وإبعادهم عن المجتمع وصناعة القرار، فتكون سمة المجتمع أنهم ظالمون (بين ظالمٍ مباشرةً وبين ساكتٍ عن الظلم وراضٍ به). عندها تستحق القرية الإهلاك.
ولنرجع إلى سؤالنا:
بلا شك أن أشدُّ أنواع الظلم هو الشرك بالله والكفر به، لكن هل الكفر لوحده كافٍ للإهلاك؟
لنتأمل تلك الآية ."وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ ٱلْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ" ولنتذاكر معاً ما قاله بعض علماء التفسير القدماء والمعاصرين:
"وقد قـيـل: معنى ذلك لـم يكن لـيهلكهم بشركهم بـالله، وذلك قوله «بظلـم»، يعنـي: بشرك، وأهلها مصلـحون فـيـما بـينهم لا يتظالـمون، ولكنهم يتعاطون الـحقّ بـينهم وإن كانوا مشركين، وإنـما يهلكهم إذا تظالـموا". الطبري (ت310هـ)
"وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ ٱلْقُرَىٰ بِظُلْمٍ" ، أي: لايهلكهم بشركهم، "وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ" ، فيما بينهم يتعاطون الإِنصاف ولا يظلم بعضهم بعضاً، وإنما يهلكهم إذا تظالموا." البغوي (ت510هـ)
"الوجه الأول: أن المراد من الظلم ههنا الشرك قال تعالى:" إِنَّ ٱلشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ"لقمان: 13 والمعنى أنه تعالى لا يهلك أهل القرى بمجرد كونهم مشركين إذا كانوا مصلحين في المعاملات فيما بينهم والحاصل أن عذاب الاستئصال لا ينزل لأجل كون القوم معتقدين للشرك والكفر، بل إنما ينزل ذلك العذاب إذا أساؤا في المعاملات وسعوا في الإيذاء والظلم." الفخر الرازي (606هـ)
"قوله تعالى:"وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ ٱلْقُرَىٰ " أي أهل القرى. "ِظُلْمٍ" أي بشرك وكفر. "وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ " أي فيما بينهم في تعاطي الحقوق أي لم يكن ليهلكهم بالكفر وحده حتى ينضاف إليه الفساد." القرطبي (ت671هـ)
ولولا خوف الإطالة لسردت عبارات الكثير من المفسرين القدماء بنفس المعنى تقريباً، أما المعاصرين فسأكتفي بذكر اثنين فقط:
" قوله تعالى:"وَمَا كَانَ رَبُّكَ ..." إلخ. معناه : ما كان من شأنه ذلك، ولم تجرِ سنته به، فكلُّ آية مُصدَّرة بذلك فهي قاعدة عامة، تنبئ عن سنة ثابتة، وفسَّر الظلم في الآية بالشرك، وهي نصٌّ على أنَّ إصلاح الناس فيما بينهم مانع من إهلاكهم، وتسليط الأعداء عليهم، وإن كانوا مشركين بالله تعالى." محمد رشيد رضا (ت1282هـ)
".....إذن: فالحق سبحانه وتعالى لا يهلك القرى لأنها كافرة بل يبقيها كافرة ما دامت تضع القوانين التي تنظم حقوق وواجبات أفرادها وإن دفعت ثمن ذلك من تعاسة وآلام". محمد متولي الشعراوي (ت 1419هـ).
وهكذا بمجموع الآيات وكلام العلماء يكون الجواب الجليِّ أنه لا إهلاك بسب الكفر فقط بل لابد أن يجتمع معه الظلم بين بني الإنسان، وبمعنى آخر طالما هم مصلحون متناصحون ينتشر بين العدل فهم ناجون من الإهلاك حتى مع كفرهم.
ولك أن تسأل: تبعاً لذلك هل يقع الإهلاك للقرى المؤمنة إذا كانت ظالمة؟
دعني أنقل لك عبارة محمد رضا فهو يقول بعد عبارته السابقة: "وفيها (الآية) دليلٌ على أنَّ الإيمان بالله من غير إصلاح الأعمال، وعدل العمال، لا يمنع الإهلاك".
إذن لايكفي إدِّعاء الإيمان دون الأعمال، فالإيمان ليس مجرد كلام ولا أماني، كما لايكفي أن يكون العبد مؤمناً متقوقعاً على نفسه، بل لابد من تحويل الإيمان إلى منهج حياة للمجتمع وواقع يسيرعلى الأرض، إيمانٌ يحجز الظُلمَ الممنوع ويحققُ العدل المشروع.
أما صور الإهلاك فلا تحدد بطوفان ولا ريحٍ صرصرٍ عاتية ولا صاعقة ولا غيرها، وإنما تختلف بأشكال وأنواع لا يحصيها إلا الله، فربما بالتناحر والاقتتال بين الأصدقاء، وربما بالهوان وتسليط الأعداء، وربما بموت القلوب وقبض العلماء، وربما.... والكيِّس هو الذي ينظر إلى واقعه ويـتأمل حياته ويسعى لنجاة نفسه وأهل سفينته.