صدمات الطفولة
Childhood Trauma
وتأثيرها على صحة الإنسان
ليس صحيحًا ما يشاع بأن الأطفال ينسون بسهولة.. فكثير من الناس يعيشون حياتهم وهم رهائن لأفكار انطبعت في أعماقهم منذ سنوات طفولتهم المبكرة
أجاثا كريستي
إن موضوع صدمات الطفولة قد يجعل البعض يتساءل ما علاقتي به كأخصائية اجتماعية لأنه يعتبر موضوعًا مرتبط بشكل خاص في علم النفس.
من المتعارف عليه أن الإنسان ما هو إلا نتاج أفكاره كما يقال والأفكار تولد المشاعر والمشاعر تولد السلوك، إن علم النفس من وجهة نظري يهتم بالدوافع الداخلية (الأفكار والمشاعر) للسلوك الظاهر، وتخصصي الاجتماعي بشكل عام يهتم بتأثير هذا السلوك الظاهر على الفرد ومجتمعه، لذلك قررت كتابة هذه التدوينة من وجهة نظر باحثة اجتماعية.
غالبية الناس عندما نذكر كلمة -صدمة- وفي مرحلة الطفولة يتجه تفكيرهم بشكلٍ لاواعي لتفسير تأثيرها من جانب نفسي فقط، متناسين أو يغيب عنهم أن لهذه الخبرات أثر أيضًا على صحة الإنسان الجسدية.
عندما يتعرض الطفل في مرحلة الطفولة المبكرة للعنف والاضطهاد مدة طويلة وبشكل مستمر فإن ذلك يؤثر ويغير من الوظائف الحيوية لجسده وصحته العامة، وهنالك العديد من الدراسات التي تطرقت لهذا الموضوع وهي ما تسمى “تجارب التعرض للعنف في الطفولة”.
Developmental Trauma
صدمات النمو
هو مصطلح يُستخدم لوصف صدمات الطفولة مثل الإساءة المزمنة، الإهمال، أو أي محنة قاسية يتعرض لها الأطفال في بيوتهم أو بيئات تنشئتهم.
إذًا، مالذي نقصده بصدمات الطفولة؟
إن صدمات الطفولة هي تلك الأحداث الصادمة التي تنهش الطفل من الداخل وتغير من وظائف أعضائه الحيوية على المدى البعيد، ومن الأمثلة على هذه الصدمات:
سوء المعاملة أيًا كانت (نفسية، جسدية، جنسية ..الخ)
الإهمال بكافة أشكاله
النشأة في بيئة مضطربة، كأن يكون أحد الوالدين مريضًا عقليًا، أو يعاني من الإدمان، أو يعيش في منزل مليئ بالعنف
قد يتساءل البعض الآن، كيف لهذه الصدمات أن تؤثر على دماغ الطفل وتغير من حالة أعضائه الحيوية؟
خلاصة القول أعلاه أن الطفل عندما يتعرض لإجهاد يفوق قدرته العمرية على التحمل ولا يجد من يقدم له الدعم والإحتواء سواءً من الوالدين أو أفراد العائلة، فإن الطفل غالبًا سيتعرض لصدمة نمو.
إن الكثير من الأطباء والأخصائيين يدركون اضطراب ما بعد الصدمة PTSD ومسبباته وأعراضه، لكن العامة من الناس يتوقعون أن الآثار الشديدة التي تظهر على الأفراد البالغين هي بسببه!
وهذه معلومة مغلوطة، لأن الغالبية العظمى من الأطفال المصابين بصدمات الطفولة لن يصابوا باضطراب ما بعد الصدمة.
لماذا؟
بسبب التطور المعرفي المستمر لأدمغة الأطفال ومعالجتهم للخبرات الجديدة والمكتسبة أثناء فترة نموهم.
لكن هذا النمو المستمر لا يلغي حقيقة أنهم معرضون لخطر الإصابة بمجموعة من الأمراض العاطفية والجسدية المعقدة والتي تدوم طوال حياتهم، وذلك بحسب دراسة قام بها مركز السيطرة على الأمراض في نهايات القرن الماضي.
هذه الدراسة بدأت في عام ١٩٩٥م في ولاية كاليفورنيا ومازالت مستمرة لرصد التغيرات الصحية التي تطرأ على المشاركين فيها بشكل دوري، تهدف هذه الدراسة إلى استكشاف العلاقة بين الصدمات التي تحدث للإنسان في فترة النمو والأمراض الجسدية والعقلية لاحقًا.
ولقد تم الطلب من البالغين المشاركين تذكر تجاربهم في سنوات طفولتهم المبكرة، وحددوا درجة لحدة التجارب والصدمات المؤذية التي تعرضوا لها المشاركين.
لقد أوضحت هذه الدراسة أن البالغين الذين تعرضوا لمواقف أكثر من الصدمات المؤذية لديهم معدل أعلى من أقرانهم في المشكلات الصحية الجسدية الخطيرة، والسلوكيات الصحية عالية الخطورة، والمرض المبكر واحتمالية الوفاة المبكرة.
ومن المدهش أن بيانات هذه الدراسة والبيانات من الدراسات الصحية الأخرى التي تم جمعها منذ عام ٢٠١٠ تظهر وجود علاقة قوية بين الصدمة والتجربة المؤذية التي تعرض لها الإنسان في طفولته المبكرة والآثار السلبية على صحته لاحقًا.
هذا يعني أنه كلما ازداد عدد صدمات النمو والتجارب المؤذية التي عانيت منها في طفولتك كلما ازداد عدد الأمراض التي ستعاني منها بعد البلوغ، وتستمر هذه الآثار حتى بعد السيطرة على المخاطر وحتى بعد الابتعاد عن البيئة المسيئة.
وقائمة هذه الأمراض والمشكلات السلوكية تزيد مع التعرض المستمر للمزيد من صدمات الطفولة المؤذية، ومن ضمن هذه المشكلات:
احتمالية التدخين وإدمان الكحول والأدوية
زيادة معدلات عدم الاستقرار في مهنة لوقت طويل
تفضيل عدم الحركة ونمط الحياة الكسولة
ومن الأمراض وجد أن الأشخاص الذين تعرضوا لخبرات طويلة من الصدمات والطفولة المؤذية هم أكثر عرضة للسمنة والسكري وأمراض القلب والسرطانات، والسكتة الدماغية والأمراض المناعية، ومشكلات الجهاز التنفسي، وأيضًا المشكلات النفسية مثل الاكتئاب واضطراب القلق العام والميول الانتحارية.. الخ
نتائج هذه الدراسة مهمة. ليست فقط بسبب أنها تبين العلاقة بين صدمات وخبرات الطفولة وبين سوء الصحة لاحقًا بل لأن المشاركين فيها من الطبقة المتوسطة ولديهم مستويات تعليم عالي ورغم ذلك هذه البيانات تتحدى فكرة أن الصدمة تحدث فقط داخل مجموعات معينة ومهمشة أو معرضة للخطر.
في إحدى الدراسات التي تناولت هذا الموضوع على يد العالم المتخصص في صدمات الطفولة “فيلتي” والتي أجريت على ١٧٥ ألف بالغ، طُرحت عليهم أسئلة حول قصصهم وتجاربهم في التعرض لما يسمى بتجارب التعرض للعنف في الطفولة التي تشمل العنف الجسدي والعاطفي، والإنتهاك الجنسي، والإهمال الجسدي والعاطفي، والمرض العقلي لأحد الوالدين، وإدمان المخدرات، والسجن، والإنفصال أو الطلاق وأخيرًا العنف المنزلي.
وكانت النتائج لهذه الدراسة مذهلة، فقد كشفت أن ٦٧٪ من المتطوعين في الدراسة تعرضوا إلى مؤشر إيجابي واحد من المؤشرات المتعلقة بتجارب التعرض للعنف في الطفولة، و١٢.٦٪ أي واحد من كل ثمانية أشخاص لديه أربعة مؤشرات إيجابية من المؤشرات المتعلقة بتجارب العنف في الطفولة، وقد كشفت الدراسة أيضًا عن علاقة عكسية بين كثرة التعرض للصدمات في مرحلة الطفولة وتدني الحالة الصحية للطفل في حياته لاحقًا.
وبهذا يكون الطفل الذي لديه أربعة مؤشرات إيجابية من المؤشرات المتعلقة بتعرضه للعنف في مرحلة الطفولة معرض أكثر من غيره للإنسداد الرئوي والالتهاب الكبدي بمرتين ونصف، والكآبة والاكتئاب بأربع مرات ونصف، وللإنتحار بإثنتي عشرة مرة.
وفي دراسة طويلة أجريت على أطفال منذ ولادتهم وحتى بلوغهم ٣٣ سنة، لوحظ عند إجراء اختبار دم لهم أن الأطفال الذين تعرضوا لسوء معاملة في طفولتهم قد تغيرت الوظائف الحيوية في أجسادهم، إذ اكتشف الباحثين أن مستويات البروتين التفاعلي C لديهم أعلى بكثير من بقية أقرانهم، وهذا البروتين هو مجموعة من المركبات الحيوية التي تزيد مستوياتها في الدم عند تعرض الجسم لأي مؤثر ينتج عنه ردة فعل من أجهزة الجسم المختلفة وفي مقدمتها الجهاز المناعي، وقد وجد الباحثين أن هؤلاء الأطفال تعرضوا للاكتئاب عند بلوغهم سن ٣٢ وأصيبوا بأمراض القلب والشرايين.
كلما اتسعنا كباحثين في دراسة صحة الإنسان البالغ وظروف الطفولة التي تعرض لها كلما وجدنا علاقة قوية بين الأمراض التي يصاب بها في حياته لاحقًا، مثل: أمراض القلب، السرطان، وأمراض الرئة المزمنة، وأمراض الكبد التي هي من الأسباب الرئيسية للوفاة في العصر الحالي
لماذا نركز نحن المعالجين على صدمات الطفولة؟
لأن الأطفال حساسون أكثر من غيرهم للأحداث والمواقف المتكررة من التوتر والقلق، ولأن أدمغتهم وأجسادهم لا تزال في طور النمو، بالإضافة إلى أن التعرض المستمر للجرعات المرتفعة من هرمون التوتر - الكورتيزول- والأدرينالين الذي يحكم قدرة الإنسان في مواجهة الخطر والتهديد الذي يتعرض له في حياته ليس جيدًا، إن قدرة الإنسان على استشعار الخطر عظيمة جدًا ومذهلة في المواقف الحقيقية التي تشكل خطر، لكنها ليست جيدة عندما تصبح عادةً لدى الطفل! بل تصبح مدمرة لصحته وسلامة جهازه المناعي ومستويات الهرمونات في جسده.
إننا حين نفهم ونتعلم آلية حدوث اضطراب ما فإننا نقترب من فرصتنا للحد منه، ثم تفاديه، فالتعرض للعنف في وقت مبكر يؤثر كثيرًا على صحة الإنسان مدى الحياة
وأجرى العالم المتخصص في صدمات الطفولة «فيلتي» تجربة توضح مدى أهمية التحدث والإفصاح عن الصدمات التي حصلت في الطفولة كالإهمال، والقسوة، والضرب، والتحرش، فطلب من الأطباء أن يطبقوا مقياس صدمات الطفولة على المرضى المصابين بأي مرض عضوي أو نفسي ثم يسألونهم عن هذه الصدمة، بقولهم مثلًا: «أرى أنك تعرضت لصدمة كذا وكذا في طفولتك، أنا آسف لحدوث ذلك، هل تريد التحدث عن هذه التجربة؟»، وبعد إجابة المصاب يُظهِر التعاطفَ الطبيبُ ويسأل: «هل تعتقد بأن لهذه الصدمة أثرا سلبيا طويل المدى عليك؟ أو أن لها علاقة بصحتك اليوم؟».
وكان الهدف من ذلك إعطاء فرصة للحديث عن الصدمة وإدراك المصاب أنه لن يكون عرضة لإطلاق الأحكام عليه، بل على العكس، سيحصل على التعاطف المطلوب ممن وثق به، وهو المعالج.
وكان أغلب المرضى لم يسأل نفسه قبل ذلك إن كان لصدمة الطفولة علاقة بحالته المرضية اليوم أو لا! وهذه التجربة أتاحت لهم التفكير في الأمر.
بعد تجربته هذه انتظر «فينست» شهورًا وأعوامًا وهو يتابع هؤلاء المشاركين لمعرفة إن كان ما فعله ذا نتيجة مثمرة أو لا، ووجد أن الذين تحدثوا عن صدمة الطفولة قلت لديهم الأعراض المرضية وانخفض لجوؤهم للتدخل الطبي بنسبة ٣٥٪، وفي دراسة أخرى إلى٥٠٪، وبذلك نستنتج أن المعالج الماهر يهتم بجميع التفاصيل الصغيرة والكبيرة، ولا يتعجل في التشخيص والعلاج، ففي بعض الأحيان يكون ما يؤرق مشاعرنا وأفكارنا من أحداث ماضية هو سبب الاكتئاب أو القلق، والإفصاح عنه للشخص المناسب هو بداية العلاج.
يرى عالم النفس الفرنسي «جانيت» أن صدمات الطفولة تُنسى، لكنها تبقى في اللاوعي وقد تكون أساسا للاضطرابات النفسية مستقبلًا؛ لأن العقل الباطن يرى ما خلف الستار بخلاف العقل الواعي.
كذلك يرى الأستاذ «فروم» أن الصدمة النفسية تؤدي إلى نوع من إبطال قدرة الشخص على استخدام عقله لمعالجة الأمور، والصدمة النفسية هي تجربة يكون فيها الشخص مثقلًا عاطفيًا كنوع من الإيقاف الكامل لأجهزة العمل ونوع من الإحساس بالعجز؛ مما يقود عادةً الشخص المصدوم نفسيًا إلى مواجهة صعوبات في ضبط عواطفه وصعوبات في تحمل الضغوط.