أهم حملة في تاريخ الإعلان السعودي
كانت لـمنظمة غير ربحية!
كثيرون يعتقدون بأن التسويق فكرة تجارية بحتة، وهذا الاعتقاد ليس دقيقاً على إطلاقه. التسويق كلمة أتى أصلها من الجذر "سوق"، والسوق هنا - وإن كان يعني الموقع المكاني (أو الافتراضي) الذي يحدث فيه التقاء الباعة بالمشترين لإتمام "التبادل" الـمفيد للطرفين - إلا أنه يعني أيضاً أي شريحة مجتمعية معتبرة لديها قدرة ورغبة بشراء شيء معين، لذا نقرأ أحياناً في سياق الأخبار جملة من قبيل: "الشباب هم أكبر سوق للأطعمة السريعة في المنطقة".
والتسويق في أحد تعريفاته الأساسية هو: خلق وتسعير وترويج وتوزيع منتجات ذات قيمة لتلبية احتياجات سوق ما، وذلك لتحقيق مكاسب معينة. والمكاسب قد تكون مادية، وقد تكون معنوية. وقد عرّف كوتلر مع أرمسترونغ، وهما من آباء التسويق، التسويق بأنه "عملية اجتماعية"، حيث يُنتِج أفراد المجتمع منتجات يرون لها قدراً (قيمة)، ويتبادلونها فيما بينهم لإشباع احتياجاتهم، بطريقة مجدية للجميع.
فالمنتَج (بفتح التاء) ليس بالضرورة أن يكون تجارياً، والمنتِج (بكسر التاء) ليس بالضرورة أن يكون تاجراً أو كياناً ربحياً. والمنتجات ليست مادية وحسب (مثل الأجهزة والمواد الغذائية)، بل تتجاوز ذلك لتشمل الخدمات والأفكار أيضاً. فدار رعاية يخدم المسنين أو الأيتام.. هو مُنتَج. وأفكار مفيدة للمجتمَع مثل مكافحة التدخين أو التوعية بالسرطان أو محاربة العنصرية هي منتجات يمكن الترويج لها تماماً كما يُروّج للمنتجات المادية المُعدَّة لأهداف تجارية.
وكما يُستخدَم التسويق لتطوير وترويج منتجات تجارية لتحقيق أهداف مادية، يجب أن يُستخدَم كذلك لتطوير وترويج منتجات اجتماعية لتحقيق أهداف سامية ونبيلة.
ولا ينبغي على المنظمات غير الربحية أن تخجل من استخدام أساليب تسويقية لتطوير منتجاتها والوصول إلى شرائحها وتحقيق أهدافها، بسبب أن بعض مُسيِّريها يرى بأن التسويق يقلل من احترامها. ما يقلل من احترامها هو اختيار الأساليب والطرق والأفكار التسويقية غير المناسبة، وليس التسويق بحد ذاته.. تماماً مثل الشخص الذي يرتدي ملابساً لا تناسب شخصه أو سِنّه أو وضعه الاجتماعي.
دور التسويق في المنظمات غير الربحية هو: خلق منتجات (برامج ومبادرات ومشاريع) تخدم المجتمع، والترويج لها، والوصول بها إلى الشرائح المستهدفة لتحقيق أهداف متعددة ونبيلة، من أهمها: جذب المتبرعين وتنمية الموارد المادية، نشر الوعي حول موضوع محدد، جلب متعاونين ومتطوعين، الترويج لقضية ما وحشد التأييد لها، تغيير السلوك الاجتماعي حيال موضوع ما، الترويج لقيم إنسانية نبيلة ونشر أفكار إيجابية بناءة، إضافةً إلى بناء هوية المنظمات وإيصال رسائلها الأساسية لمجتمعها.
وفي الحقيقة، فإن جميع المنظمات الإنسانية هي في حاجة ماسة إلى التسويق. التسويق ليس أمراً شكلياً، بل هو ركن أساسي في عمل المنظمة. كنت أعمل مستشاراً للاتصال والتسويق في مؤسسة الملك خالد الخيرية، وكانت المؤسسة تنشط – ضمن مجموعة أنشطتها - في دعم قضايا الأسرة عبر التواصل الإيجابي المستمر مع صُنّاع القرار لتحسين الأنظمة والتشريعات. وكان من أهم القضايا المسكوت عنها قضية العنف ضد المرأة، وهي شأن محلي حساس. وقد ساهمتُ في بداية 2013 مع مجموعة محترفة من العاملين في مجال الإعلان إلى إخراج حملة إعلانية للمؤسسة لرفع الوعي بمشكلة العنف ضد المرأة وضرورة وضع حد لها. وكان عنوان الحملة: "وما خفي كان أعظم". وقد حققت الحملة صدى كبيراً على المستوى المحلي والإقليمي والدولي، بل إن أهم وسائل الإعلام في العالم نشرت عنها، مثل: CNN، التيلغراف، الغارديان، الواشنطن بوست، الديلي ميل، آد ويك، وغيرها الكثير. حدَث ذلك كأول حملة إعلانية سعودية تحقق انتشاراً عالمياً. المثير في الأمر أن الحملة لم تكلف الكثير مادياً، لكن الفكرة كانت ذات قيمة فنية وفكرية عالية جداً.
والأهم من كل شيء أن هذه الحملة الإعلانية أسهمت في تسليط الضوء على تلك الظاهرة ودعمت سن تشريعات لمصلحة المجتمع السعودي؛ فقد ساعدت على تسريع إصدار نظام "الحماية من الإيذاء"، كأول نظام محلي يشرِّع لحماية المرأة والطفل من العنف والتسلط.
ألا يكفي هذا الدليل على أهمية التسويق للمنظمات غير الربحية؟ لقد حققت الحملة اختراقاً إعلامياً على الصعد كافة، وحظيت باحتفاء كبير من قِبل المواقع العالمية المهتمة بالإبداع والإعلان، ولم تستطع منشآت تجارية سعودية كبرى أن تحقق إنجازاً تسويقياً مماثلاً على ضخامة إمكاناتها المالية.
وبعد.. ألا تستحق المنظمات غير الربحية تسويقاً محترماً يوازي سمو أهدافها؟
ألا تستحق المنظمات غير الربحية تسويقاً محترماً يوازي سمو أهدافها؟