تساؤلات

من أرياف بولندا !

مابين الأشجار الخضراء وفي أحدى حدائق مانشستر ، التقيت بـ (أدريانا) الشابة البولندية وابنتها الجميلة ذات الخمس أعوام صاحبة الشعر الحريري الأشقر والعينان الزرقاوتان الفاتنتان.

ورغم أنه اللقاء الأول الذي يجمعني بها إلا أني شعرت وكأني أعرفها منذ زمن بعيد ..

تحدثنا في مواضيع كثيرة وفي شتى نواحي الحياة، بدأنا بالدراسة ثم تربية الأبناء وبعدها التقنية والمستقبل العلمي ثم الصحة والسياحة ثم قفزنا إلى السياسة وبعدها الأديان وتعمقنا في النصرانية ثم الإسلام وانتقل بنا الحديث إلى وضع المرأة في العالم وعبر التاريخ ثم إلى الصحافة والإعلام ثم انتقل الحديث دون أن نشعر إلى تاريخ الدول الأوروبية والصراعات القديمة والانقسامات الحالية ثم إلى التوترات الحديثة في الدول العربية ثم دار الحديث إلى عادات الشعوب وتقاليدها ثم التضاريس الجغرافية والطقس ثم قفزنا إلى ... و… و….

ولم يقطع حديثنا إلا صوت الصغيرة الجميلة بعد أن اكتفت من اللعب في الحديقة


Mummy I am so hungry!

نظرت إلى ساعتي فوجدت أننا قضينا مايقارب ثلاث ساعات في حديث متواصل وحقيقة لم أشعر بالوقت معها أبداً وتمنيت لو أن حديثنا يطول ..


خلال حديثي مع أدريانا أخبرتني أنها وُلدت ونشأت في قرية صغيرة في أرياف بولندا، جميع سكانها من أصل واحد ويتحدثون بلغة واحدة وتجمعهم عقيدة واحدة (النصرانية الكاثوليكية) ولا وجود للتنوع العرقي أو الديني بينهم أبداً !

لم تشاهد أدريانا في حياتها امرأة مسلمة محجبة حتى أنهت دراسة مرحلة الماجستير في بلدها وانتقلت إلى بريطانيا للعمل حيث كان أول لقاء حقيقي بينها وبين المسلمات المنقبات التي لم يسبق لها رؤيتهن سوى في صور الإعلام “ المشوهة غالباً”، لكن حتى هنا في بريطانيا لم تحظى بفرصة الحديث معهن فضلاً عن بناء أي علاقة صداقة تجمعها بامرأة مسلمة! ولحسن حظي شاء الله أن أكون أول صديقة مسلمة لها وأرجو أن أُوفق لرسم صورة جميلة للمسلمات في عينها.

ونحن نتمشى في الحديقة، ولكم أن تتخيلوا الفرق الكبير في المظهر بيننا، سألتني أدريانا: حين تتجولين في شوارع وحدائق بريطانيا بحجابك ونقابك هل تعانين من توجه نظرات الناس نحوكِ وتحديقهم فيك؟

أجبتها وأنا أضحك: أحياناُ ألاحظ نظرات الناس تلاحقني وأنا أسير خصوصاً في المناطق التي يكون تواجد المسلمين فيها قليل ولكني أعتدت جداً على هذا الأمر ولم يعد يضايقني، فهمست أدريانا في أذني: نعم لا تجعليه يؤثر فيك وتأكدي أنها ليست نظرات كره ولا سخرية ولا تحمل أي معنى سوى الاستغراب فقط، وأنا واحدة من هؤلاء الناس وكثيراً ماحاولت أن أمنع نفسي من التحديق في النساء المنقبات لكني غالباً أفشل حين تمر أحداهن من أمامي فقط لأنه مظهر غريب بالنسبة لي ولم أعتد رؤيته في بلدي.

شعرت بلهفة أدريانا لمعرفة المزيد عن حياة المسلمات وكأنها وجدت في حديثها معي فرصة تستطيع أن تعبر من خلالها السد الذي طالما شعرت أنه يفصل بينها وبين هذه الفئة الغريبة عنها. سألتني عدة اسئلة عن وضع المرأة المسلمة وخصوصاً في المجتمع السعودي وأعتقد أنها كانت تتوقع مني أن أجيبها بالتشكي من الظلم والاضطهاد و..و.. ولكنها تفاجأت حين أخبرتها أنني عشت حياة جميلة جداً في وطني وأن حماية أهلي لي قبل الزواج ثم رعاية زوجي بعد أن اصبحت تحت ظله لطالما أشعرتني وكأنني ملكة! قاطعتني متسائلة: وماذا عن مانسمعه في الإعلام عن الظلم الواقع على المرأة في بلادكم ؟! فأجبتها: معظم ما ينقل لكم عنّا كذب وافتراء يقصد به تشويه الإسلام والإساءة للمسلمين. هزت رأسها مؤيدة وقالت: فعلاً أنا لا أثق في الإعلام وكم تمنيت أن أزور بلادكم لأرى الحقيقة بعيني.

سألتني بعدها عن الطبيعة الجغرافية للمنطقة التي نشأت فيها، فسألتها أنا: هل سبق وأن سمعتِ عن منطقة تسمى مكة؟ وحقيقةً لم أكن أستبعد أبداً أن يكون جوابها “لا” خصوصاً أنها قادمة من أرياف بولندا، وقد سمعت هذا الجواب كثيراً من غيرها، ولكنها التفتت إلي متسائلة: هل تقصدين أعظم وأهم مدينة في العالم الإسلامي؟ فأجبتها: نعم وهذه هي المدينة التي أنتمي إليها بكل فخر. فشهقت بتعجب أنت من مكة؟؟ ياااه كم قرأت عن هذا المكان ولم أكن أتخيل أني سألتقي ذات يوم بإمرأة من هناك! ثم قالت: في ذهني الكثير من الأسئلة عن مكة فهل تسمحين لي أن اسألك عنها ؟ أجبتها: طبعاً وسأجيب بكل سرور. ردت مسرورة: سأعود اليوم إلى البيت واقرأ المزيد عن مكة وسأجهز اسئلتي للقائنا القادم :)

خلال حديثي معها حرصت على أن لا اسألها عن معتقدها الديني خصوصاً أنه اللقاء الأول ولا زلت لا أعرف شخصيتها وقد تكون ممن ينفر من الحديث في هذا الجانب ولكن بالطبع كنت أنوي أن أتدرج في النقاش الديني معها في اللقاءات القادمة، ولكنها فاجأتني بحديثها في هذا الجانب وبكل أريحية ولعل اجاباتي على اسئلتها السابقة جعلتها تشعر بارتياح أكبر للحديث. بدأت الحديث بعبارة أثارت تعجبي، قالت لي: هل تعلمين أني أصبحت لا أعرف إلى إي فرقة من النصارى أنتمي! واكملت حديثها قائلة لقد وُلدت في مجتمع ينتمي إلى الطائفة الكاثوليكية وهكذا نشأت وتعلمت وكنت أصف نفسي إلى فترة قريبة بأني منهم إلى أن قررت أن أبدأ القراءة في الكتاب المقدس لأول مرة في حياتي وهنا كانت الصدمة! وجدت اختلافاً كبيراً بين ما هو مكتوبٌ فيه وبين ما نشأت عليه من المعتقدات الكاثوليكية وفي كل مرة اقرأ أكثر أصاب بصدمة أكبر! أثرت في نفسي عبارة كررتها كثيراً ( أشعر أنني طفلة وللتو بدأت أتعلم ديني ولازلت لا أعرف إلى أي طائفة أنتمي) وأخذت تسرد علي أمثلة من التناقضات بين ماهو مكتوب في الإنجيل وبين كلام القساوسة والحياة التي يعيشونها. وهنا أنتهزت الفرصة وحدثتها عن الإسلام وكيف أن تعاليمه موافقة للفطرة والعقل وكانت تهز رأسها باستحسان لما تسمعه، وأشعر أن في داخلها صراعٌ كبير في معرفة الحق وفي داخلي امتنان كبير اني ولدت على الحق..


أخبرتني أدريانا أيضاً أنها حين أرادت أن تسجل ابنتها في المدرسة ( في المرحلة التمهيدية بداية هذا العام الدراسي الذي انقضى) شعرت بقلق شديد لأن المدرسة القريبة من منزلها يوجد فيها نسبة كبيرة من الطلاب المسلمين لكنها تقول الآن وفي نهاية العام أشعر بسعادة لأنني اتخذت هذا القرار فأنا أريد لابنتي أن تتعلم عن مختلف الأديان. قالت لي وهي تضحك: أتعلمين بعد مناسبة رمضان والعيد وبعد أقامت المدرسة يوماً للتعريف بهذه المناسبتين عند المسلمين أتتني ابنتي وقالت ماما أنا مسلمة! أجبتها: لا، أنت لست كذلك، فغضبت وقالت بلى أنا مسلمة، فأعدت عليها الجواب: أنا متأسفة أنتِ لستِ كذلك ولكن ربما ذات يوم حين تكبرين وتختارين طريقك بنفسك!


تأثرت كثيراُ بقصة الطفلة الصغيرة ودعوت الله بألحاح ألا تلقاه إلا وهي مؤمنة لا تشرك به شيئاً ..


تساؤلات كثيرة دارت في ذهني بعد حديثي مع أدريانا .. سألت نفسي لو وُلِدتُ أنا في أرياف بولندا ونشأت في بيئة نصرانية وتحت ظل عائلة كاثوليكية متشددة وولِدت أدريانا في مكة ونشأت النشأة الإسلامية التي نشأتها وتلقت العلم الشرعي كما تلقيته، فهل ستكون النتيجة مختلفة ؟!!

جميعنا وُجِدنا على هذه الأرض للاختبار ولكن قد تكون طريقة الإختبار مختلفة ، وبالتأكيد ليس لنا أي فضل في كوننا مسلمين فقد أتانا الإسلام على طبق من ذهب! وسيحاسبنا ويحاسبهم أعدل العادلين من أختارنا أن نولد مسلمين وأختارهم أن يولدوا على هذه الأديان وفي هذه المجتمعات، ومن قال في محكم كتابه مخاطباً نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ( وإنه لذكرٌ لك ولقومك وسوف تسألون)

“وسوف تسألون” سنسأل جميعاً والله عن شكر هذه النعمة، سنسأل عن هذا الشرف الذي اختصنا الله به، سنسأل عن تطبيقنا لشرائع الإسلام وسنسأل وهو الأهم عن تبليغنا للحق الذي نعلمه “ولا يعلمونه”

فهل أعددنا للسؤال جواباً ؟؟

Join