من لهم ؟؟!
في عيد 1440 هـ، العام المميز بتاريخه أحببت أن يكون عيدي مميز. خُيَّرت بين أن أحتفل بأول أيام عيد الأضحى المبارك مع زميلات الغربة في حفل نادي الطلبة السعوديين وبين أن أحضر حفل معايدة بسيط يجمع عدد من الأخوات المعتنقات للإسلام ممن لايجدن من يشاركهن فرحة العيد فاخترت أن أقضيه مع من يصنع وجودي بالنسبة لهن فارق ومن أستطيع أن أحتسب كل لحظة أقضيها معهن عملاً أتقرب به إلى الله.
هناك، التقيت بأخوات من جنسيات مختلفة وأعمار مختلفة ولغات مختلفة ولكن يربطهم رباط وثيق رباط الإيمان. جميعهن معتنقات للإسلام البعض منهن قضين عدة سنوات في الإسلام والبعض عدة أشهر فقط وإحداهن وهي الأغرب لازالت خارج دائرة الإسلام وإنما أتت كماذكرت من باب الثقافة والإطلاع والتعرف على شعائر الأديان ولكني أكاد أجزم ان الذي وضع بداخلها هذه الرغبة قد أراد بها خيراً وهي لا تعلم.
شعرت وأنا معهن بمشاعر جميلة وصدقاً لأول مرة استشعر المحبة الحقيقية في الله ولله وأرى قول النبي صلى الله عليه وسلم يتجسد أمام عيني (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان.. وذكر منها وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله), في أعينهن رأيت المحبة الحقيقية في الله وشعرت بصدقها في أفعالهن وسأنقل لكن بعضاً مما رأيت.
على الكرسي المقابل لي
كانت تجلس أخت بريطانية تجاوزت ال ٦٥ من العمر وبجانبها أخت من دولة البوسنة يبدو عليها أنها أكبر منها سناً ، استمتعت جداً بالاستماع لأحاديثهن وهن يقصصن علي ذكرياتهن الجميلة في رحلة العمرة التي جمعتهن سوياً قبل عدة سنوات وعن لحظات الصفاء والإيمان التي قضينها هناك وعن اشتياقهن الشديد لمسجد المصطفى صلى الله عليه وسلم وأمنياتهن ودعواتهن برحلة عمرة أخرى تجمعهن. أمنت على تلك الدعوات الصادقة وقلت لهن اسأل الله أن أكون وقتها هناك في مكة وأتشرف باستضافتكن في بيتي فتهللت وجوههن فرحاً وسعادة وأمَّنَّ على دعواتي تأميناً شعرت بأنه من أعماق أعماق الفؤاد.
وفي الجهة الأخرى
كانت تجلس أخت بريطانية يبدو أنها قد تجاوزت الخمسين وبجانبها امرأة كبيرة اعتقد أنها قاربت الثمانين، تظهر عليها أثار كبر السن والمرض و لا تكاد تقوى على الحركة. لم أستطع أن أميز من مظهرها إلى أي جنسية تنتمي فبشرتها بيضاء ولكن لباسها غريب جداً ولا أعرف إن كان الزي الذي ترتديه يمثل ثقافة دولة معينة. ما لفت نظري هو خدمة السيدة البريطانية لهذه المرأة الكبيرة في السن وكأنها والدتها وعندما سألتها احدى الجالسات بالقرب منها عمن تكون هذه المرأة أخبرتها أن هذه العجوز قد دخلت في دين الإسلام منذ مدة وأنها تقضي معظم وقتها وحيدة في بيتها لا ترى أحداً ولذلك حرصت أن تذهب إليها وتحضرها معها لحفل المعايدة لتدخل السرور على نفسها! سبحان الله شعرت وكأن كل واحدة منهن ترى نفسها في الأخريات وتحاول أن تغطي قدر المستطاع غياب الأهل والأصدقاء لأنها تعلم أن من تختار الإسلام في هذا المجتمع سينفض عنها كل من حولها وربما يتحولوا إلى أعداء إلاّ إن كانت محظوظة.
قلبت نظري فرأيت هناك على إحدى الطاولات المجاورة
مجموعة من الأخوات يتبادلن الأحاديث وكأن بينهن معرفة سابقة ولفتني منظر فتاة بريطانية تجلس بجانبهن صامتة وكأنها غريبة عنهن.
سألتُ عنها احدى الجالسات بجانبي فأخبرتني أنها حديثة عهد بالإسلام قد كتب الله لها الخروج من الظلمات إلى النور قبل عدة أشهر.
راقبتها قليلاً فوجدتها تجلس بصمت تام تستمع أحياناً لأحاديث من حولها ثم تعود وتمسك بهاتفها وكأنها تبحث عن شئ يذهب عنها الوحدة والملل. شعرت برغبة في التعرف عليها وتقديم المساعدة فذهبت إليها وألقيت التحية وعرفتها بنفسي وعرضت عليها أن تأتي وتجلس بجانبي إذا رغبت فشكرتني ورحبت على الفور وأتت معي. تبادلنا الأسئلة التعارفية المعتادة وكم كانت دهشتها كبيرة حين علمت أني من مكة.!
ولم تكن تلك ردة فعلها هي فقط بل كانت ردة فعل كل من عرفتهن على نفسي في ذاك اللقاء. كن جميعاً ينظرن إلي نظرة مختلفة ويتهامسن فيما بينهن إنها من مكة!
(من مكة) جملة قد اعتدنا سماعها ونطقها حتى فقدنا لذة استشعار النعمة وغفلنا عن شكرها لكنها بالنسبة لهن كلمة تهتز لها القلوب وتفيض لها العيون. صدقاً ما شعرت بالعظمة الحقيقية لهذه النعمة حتى ألتقيت بالمسلمات في أوربا ورأيت نظرات الغبطة في أعينهن وسمعت تلك العبارة التي تكررت كثيراً على مسامعي ( أنتِ محظوظة جداً !! )
كنت استمع لكلماتهن وفي داخلي مزيج من مشاعر الإمتنان يخالطها لوم للنفس وشعورٌ بالتقصير ومحاولة لاستشعار المسؤولية وتفكير عميق حول سبب هذا الاصطفاء.
مشاعر وأفكار مختلطة قد لا أستطيع ترجمتها ولكن عباراتهن حقاً تركت في نفسي أثرٌ عميق وجعلتني اتسائل لماذا تكون أعظم أمنيات هؤلاء المسلمات وغيرهن من ألوف وربما ملايين المسلمين والمسلمات حول العالم رؤية الكعبة أو اداء فريضة العمرة أو الحج ولو لمرة واحدة في العمر وبالمقابل أُولد أنا وأنشأ وأقضي معظم عمري بجوار بيت الله الحرام ؟
أيكون هذا الاصطفاء عبث؟ لا والله وحاشا الملك العظيم أن يفعل شيئاً أو يقضي أمراً إلا لحكمة يعلمها.
و السؤال الأصعب على النفس هل سنتساوى حين نقف للعرض على الله؟ وهل سأستطيع أن أقول يارب قد شكرتك على هذه النعمة وأديت حقها؟!
تفكيرٌ مؤرق! يارب فاغفر وتجاوز وأرحم :(
وأعود مجدداً للفتاة البريطانية آمنة ( كما اختارت أن تسمي نفسها بعد الإسلام ). قصت علي آمنة قصة رحلتها مع الهداية وبدأتها بعبارة تعجبت منها كثيراً ولا زلت أحاول أن أفهم مدلولاتها. قالت لي آمنة بعد أن تأملت حجابي: أتعلمين أشعر أن شيئاً ما يُشِع منكِ! لا أعلم ماهو ولكن أشعر بشئ غريب ذكرني بالمرأة التي كانت سبباً في إسلامي!
ولكون القاعة التي كنا نجلس فيها مفتوحة ويمر منها الأخوة المنظمين للحفل باستمرار اضطررت أن أبقى بحجابي ونقابي.
تعجبت كثيراً من عبارات آمنة وسألتها عن قصتها مع تلك المرأة فقالت لي: قبل عدة أشهر كنت إنسانة مختلفة تماماً عما أنا عليه الآن، كانت حياتي كأي فتاة غربية منغمسة في الملذات إلى أقصى حد ولم يكن للإسلام أي ذكر في حياتي. وكعادتي في كل إجازة سنوية أذهب مع أصدقائي في رحلة سياحية إلى دولة من الدول, وشاء الله في تلك الرحلة أن تكون وجهتي إلى تركيا. وهناك التقيت بتلك المرأة التركية المسلمة المنقبة التي كانت بعد الله سبباً في إزالة الغشاء عن عيني. قالت لي آمنة وهي تصف تلك المرأة: لا أعلم أي سر إلهي قد وضعه الله فيها! من أول لقاء جمعني بها شعرت بإنجذاب شديد نحوها. كنت أشعر وكأن نوراً يشع منها ويجذبني أكثر! رأيت فيها جمال الخلقة والأخلاق والحديث وشرح الله صدري لكلماتها وشعرت وكأن حجاباً أزيح عن عيني فأبصرتُ طريق الحق! ولم أغادر أرض تركيا إلا وأنا مسلمة بفضل الله. وعدت إلى بلدي و إلى أهلي وأنا أحمل بين جوانحي قلباً غير القلب الذي ذهبت به وعيناً ترى الأشياء بمنظار مختلفٍ تماماً.
سألتها: وكيف كانت ردة فعل أهلك؟ نظرت في عيني نظرة صامتة تحمل الكثير من المعاني ثم قالت: اسألي الله لي العون فأنا حقاً بحاجة للدعاء. وأكملت: لكن مهما وجدت منهم فلن أترك ديني لأني أعلم يقيناً أني سألقى ربي وحدي ولن يكونوا معي ولن يغنوا عني من الله شيئاً.
تعجبت من ثبات آمنه وسألتها وهل يوجد من بين أقربائك أو أصدقائك أي شخص مسلم؟ فأجابت: لا، أنا المسلمة الوحيدة بين كل من أعرف سواء من العائلة أو الأصدقاء أوحتى محيط العمل وهذا ما يجعلني أشعر بالامتنان وفي المقابل بالمسؤولية العظيمة في مساعدتهم ليبصروا الحق الذي أبصرته.
ثم قصت علي مواقف كثيرة مرت بها في فترة الانتقال من الظلمات إلى النور وشدني جداً أمر ذكرته لي. قالت: في كل خطوة تغيير أخطوها في حياتي لألتزم بتعاليم الإسلام اجلس مع نفسي قبلها مطولاً لأصوغ تبريراتي والأسباب التي سأشرحها لمن حولي لكي لا أتسبب في جعلهم ينظرون إلى الإسلام نظرة خاطئة أو أن ينسبون إليه ما يجعلهم ينفرون منه. لا أريد أن تكون تصرفاتي سبباً يجعلهم يعتقدون أن الإسلام يقمع الحريات أو يمنع من الاستمتاع بالحياة، أريدهم أن يبصروا الجمال الحقيقي للإسلام كما أراه وأتلذذ به.
حدثتني أيضاً عن حياة الشقاء التي كانت تحياها قبل الإسلام وعن أحاسيس الضياع وضيق الصدر الذي لا يزول رغم تصنع السعادة والاستمتاع.
قالت لي: أتألم كثيراً حين أرى بعض الفتيات المسلمات يبحثن عن السعادة في تقليد حياة الغربيات. تقول أشعر أني أريد أن أقف في وجههم وأصرخ عودوا عودوا فحياتكم والله أجمل بكثير وقد أتيتكم هاربة من تلك السعادة المزيفة ولم أذق والله السعادة الحقيقية حتى تظللت بظل الإسلام والتزمت بتعاليمه.
قلت لها: أتعلمين يا آمنة حتى في بلدي “بلد الحرمين” الكثير من الفتيات يتمنين حياة الغربيات ويسعين لها! قالت بأسى: لأنهن لا يعلمن الحقيقة المرة خلف مظاهر السعادة الكاذبة.
ثم قالت: سأحكي لك قصة حدثت لي في بدايات إسلامي وكانت سبباً في ثباتي، بعد أن أسلمت بدأت أجاهد نفسي في ترك المحرمات وكان أول أمر جاهدت نفسي كثيراً في تركه هو شرب الكحول وفي تلك الفترة التي قررت فيها التوقف تماماً عن الشرب دُعيت إلى حفل عشاء يجمع عدد كبير من الأصدقاء والصديقات، التقينا وتبادلنا الأحاديث وتناولنا العشاء والجميع يظهرون بمظهر سعيد جداً ويتبادلون أخبار السفرات والسهرات والمشتروات والكل يتظاهر بأنه في قمة السعادة، حتى أتى وقت شرب المسكرات وشربوا جميعهم و جاهدت نفسي ولم أشاركهم الشرب وحين بدأ التأثير يخالط عقولهم ويخف الوعي بدأت أقنعة السعادة المزيفة تتساقط وتظهر الحقائق. في تلك اللحظات كنت الوحيدة التي أجلس مابينهم بكامل الوعي والإدراك و جميع من حولي تحت تأثير الكحول وبدأت استمع إلى أحاديثهم التي تظهر الوجه الآخر ! نفس الأشخاص الذين كانوا يتظاهرون بالسعادة قبل قليل بدؤا يتشكون من ضيق الصدر والحزن ومن مشاكل الحياة والشعور بالاكتئاب و..و.. وتأكدت بأن تلك الضحكات المزيفة تخفي خلفها الكثير من البؤس والشقاء.
وأنا استمع لآمنة وهي تتحدث عن حال هؤلاء الأشخاص بعد السكر مرت في ذهني الحكايات التي سمعتها عن أحوال الناس وهذيانهم حين يغيب العقل قبل خروج الروح وكيف تظهر وقتها الحقائق التي ربما يحاول الإنسان أن يخفيها وقت الإدراك وسألت الله أن يحسن لنا جميعاً الختام وأن يجعل سرائرنا خيرٌ من علانيتنا.
قلت لها: لم يسبق لي أن أجالس شخص شارب للخمر لكون جميع من حولي مسلمين بفضل الله وكنت أعتقد أن الشارب يغيب عقله إلى حد يشبه الجنون ولا يملك القدرة على التحدث عن واقع الحياة. فشرحت لي آمنة المراحل العقلية التي يمر بها شارب الخمر وما يشعر به وكيف أن انخفاض مستوى الإدراك يعتمد على مقدار الشرب وأمور أخرى لا داعي لذكرها ولكن الخلاصة كما ذكرت لي أن الوضع المعتاد لديهم أن جميع الموجودين في الجلسة سواء كانوا شخصين أو أكثر يشربون سوياً وتغيب عقولهم جميعاً وينتقلون كما وصفت لي إلى كوكبٍ آخر ثم حين تعود العقول إلى الوضع الطبيعي لا أحد منهم يدرك تماماً ما قيل وما حدث.
قالت لي: كان هذا الموقف رسالة إلهية لي لأتيقن أن السعادة الحقيقية هي التي وجدتها في الإسلام وأن جميعهم يحيون حياة تعيسة كالتي كنت أحياها قبل الإسلام وإن تظاهروا بغير ذلك.
انتقل بنا الحديث إلى مواضيع مختلفة وصدقاً والله تعجبت من أسلوب الحديث الإيماني الذي كانت تتحدث به آمنة وكأنها مسلمة منذ عشرين سنة وليست عدة أشهر. شعرت بأنوار الهداية تشع منها وكأن الله فعلاً حين يريد الهداية لشخصٍ ما يزيح عن عينيه الغشاوة فيبصر الحياة بمنظار مختلف تماماً عمن حوله ويرى أموراً قد لا يراها أقرب المقربين له.
كان آخر ما تحدثنا عنه هو شعور المسؤلية الذي يؤرقها. قالت لي: لا أستطيع أن أتوقف عن التفكير في دوري كمسلمة في إنقاذ من حولي من الضلال.
أفكر دائماً في مصير كل شخص لم يجد من ينقذه من الشقاء, وأفكر في نفسي واتسآءل ماذا لو لم تقم تلك المرأة التركية بدورها ، ماذا لو لم تقف في طريقي وتتحدث معي بتلك الكلمات التي هزتني و غيرت مجرى حياتي، ماذا لو لم تفعل كيف كانت حياتي اليوم؟ وعلى أي حال كنت سألقى ربي؟!
أحمد الله كثيراً أن وضع تلك المرأة في طريقي وأنقذني من الضلال ولكن ماذا عن بقية أهلي وصديقاتي ؟ ماذا عن زملاء العمل وعائلاتهم؟ ماذا عن المجتمع البريطاني بل كل العالم الغربي ؟ ماذا عن كل شخص يحيا على هذه الأرض منغمس في حياة الضلال؟ من لهم؟
هزني سؤالها, وانتهى حديثنا وودعتها على أمل اللقاء مجدداً, ومرت عدة أشهر ولا زال صدى سؤال آمنة يتردد في أذني بل في أعماقي!