حياة الغاب
(نيتشه ضد المدينة)
غبار العزلة ونور السؤال
احترت طويلًا قبل أن أمضي يدي إلى هذا النص، لا لأن الفكرة غائمة، ولكن لأني أنا نفسي من كنت أبحث عنه. لقد هجرت الكتابة ما يربو على عام، وكنت أظنني نسيت كيف يُكتب، لكنني اكتشفت أن القلم لا يُنسى، بل يُترك في زاوية مظلمة من الروح، حتى يأتي ما يوقظه.
في ذلك العام، لم تكن بيني وبين الحرف صلة سوى ما تقتضيه الوظيفة، أوراق رسمية، تقارير، أو مراسلات باردة لا حياة فيها. غير أن القراءة كانت نافذتي الوحيدة إلى ذاتي، كانت سلوتي حين تتأخر المجالس، وسميري حين يسكن الليل ولا يبقى سوى صوت النفس.
وذات يوم، بينما كنت أقلّب أوراق كناشتي القديمة، وقعت عيناي على مجموعة من الاقتباسات المتناثرة حول “العزلة”، وكلما قلّبت الصفحة وجدت لنيتشه فيها أثرًا، كأنه يسكن الهامش، يطل من زوايا الصفحة، ويهمس: لا تستعجل، أنت أيضًا تمشي على الحافة.
عندها شعرت أن ثمة شيئًا يتشكل في أعماقي، فكرة أو حنين، لم أتبينها بادئ الأمر، فعدت أقرأ ما نقلته، وأضفت إليه ما علق في ذهني من قراءات، فبدأت صورة “العزلة” تتخلق أمامي لا كحالة نفسية أو نزعة طارئة، بل كمفهوم مركزي في حياة الإنسان، وكمفتاح لفهم نيتشه بالذات.
هذا النص إذًا ليس دراسة أكاديمية، ولا يطمح إلى أن يكون كذلك. بل هو أشبه بـ”تباريح”، أنثر فيها ما تأملته من سيرة نيتشه، وأمزجه بأثر العزلة في الإنسان المفكر، أخلط بين الفلسفة والأدب، وأستدعي الشعر كلما ضاق النثر عن التعبير. واعتمادي على نيتشه لا يعني انحصاري فيه، بل هو مركز الجاذبية، لا مدار الفكرة.
وألتمس منك، أيها القارئ، العذر، إن وجدت في هذه السطور شيء من الألم، أو شيء من التيه، فهما رفيقا كل تفلسف صادق، وكل عزلة مخلصة.
حين تكون العزلة لغة ثانية
أن تجلس وحيدًا لا يعني بالضرورة أنك معزول، كما أن وجودك بين الناس لا يمنحك الأنس دائمًا. في لحظةٍ ما، يفقد الحشد طمأنينته، ويصبح عبئًا على الروح، ويتحوّل الضجيج إلى شكل من أشكال العتمة، لا على السمع فحسب، بل على البصيرة. أما العزلة، فهي ليست هروبًا من أحد، بل عودة إلى أحد: إلى نفسك.
تأملت طويلًا في هذا المعنى وأنا أطالع سِيَر أولئك الذين خلّدتهم كتب الفلسفة والأدب والفكر، فوجدت بينهم خيطًا خفيًا يشدّهم جميعًا: ميلهم العميق إلى الوحدة. لا عن ضعف، ولا تزهدًا مصطنعًا، بل لأنهم أدركوا أن صفاء النفس لا يُدرَك إلا في لحظة سكون، كأنها السَّحَر، حيث لا صوت يعلو على التأمل، ولا مقاطعة إلا من ظلال الذات.
لكن بين “العزلة” و”الوحدة” مسافة لا يراها إلا من جرّب الاثنتين معًا.
الوحدة شعورٌ ثقيل، يتلبّسك حتى وأنت في زحام الناس. تنهض معك، تأكل معك، وتبيت على وسادتك. إنها حضور سلبي للفراغ، شعور بانقطاع الصلة لا مع الآخرين فقط، بل مع المعنى ذاته. أما العزلة، فهي اختيار، موقف وجودي، تغلق فيه الباب لا لأنك ترفض العالم، بل لأنك لا تريد منه شيئًا الآن. هي فعل إيجابي، تتفرّغ فيه للنظر في الداخل، لا للهرب من الخارج.
حين تقرأ عن ديوجين الكلبي، تجده يعيش في برميل، لا لأنه مجنون، بل لأنه رأى الجنون في الناس. أبيقور أنشأ حديقته، وجعلها عالمًا يكفيه، يختار زوّاره ويحدّد للحديث موعدًا. وابن خلدون كتب أعظم فصوله حين اعتزل الناس إلى قلعة بني سلامة، كأنما الفكر لا يولد إلا على حواف العمران.
لكن نيتشه؟ شأنه كان أبعد من ذلك.
هو لم يتخذ العزلة موقفًا طارئًا، بل جعلها جزءًا من كيانه. لم تكن لديه “رفاهية” أن يعتزل حين يشاء، بل عاش فيها كمن نُفي إلى حدود الذات. كانت عنده ضرورة وجودية، لا نزوة. عزلة عن الأجساد، عن الأذهان، عن السائد، عن المؤسسات، بل حتى عن اللغة الموروثة. كان يرى أن الاجتماع يسطّح الذوق، ويعطّل التفرّد.
يقول في زرادشته:
“ما من أحد يستطيع أن يبني لك الجسر الذي يجب أن تعبره أنت وحدك.”
(هكذا تكلم زرادشت)
كأنما يخبرنا أن الحياة معبرٌ فردي، لا يُعبر إلا وحدك، وعلى مسؤوليتك، ومن ألمك الشخصي.
وقد يبدو أن سقراط استثناءٌ في هذا السياق، إذ لم ينسحب من المدينة، بل جعل من شوارعها ساحةً لأسئلته، ومن أسواقها مدرسته المتنقلة. لم يسكن الجبال، ولم ينزَوِ عن العامة، بل اختار أن يكون في صميم المدينة، يتنقل من شخصٍ إلى آخر، يحرّض، ويسأل، ويفضح السطحيات. ومع ذلك، عاش سقراط غريبًا عن عصره، هامشيًا بالمعنى الثقافي، لا الاجتماعي.
لقد كان حضوره قويًّا بجسده، لكن فكره يسبح في نهرٍ مغاير للتيار العام. لم يكن يسعى للقبول، بل للقلق. لم يهمه أن يُتّبع، بل أن يُقلق. ولذلك، اصطدم بالأعراف، وبالسلطة، وبأهواء العامة. كان الجميع يعرفه، لكن أحدًا لم يحتمله طويلًا. وكأنّ المدينة — وإن سمحت له بالمشي في طرقاتها — لم تتحمّل الحقيقة التي يمشي بها.
لقد كان يعيش العزلة لا في الجبال، بل وسط الأقدام. عزلة المفكر الذي يرى ما لا يريد الآخرون رؤيته، ويسأل ما لا يجرؤ الآخرون على سؤاله. ولذلك، حين جاء حكم الإعدام، لم يتوسل، لم يهرب، لم يُنكر نفسه. بل جلس، وشرب السم، كمن يعلم أن المدينة قد لفظته، لا لأنه مفسد، بل لأنه صادق.
قال أفلاطون إن سقراط في أيامه الأخيرة كان أكثر صفاءً من أي وقت مضى.
ربما لأن العزلة حين تكتمل — سواء كانت في كوخ أو محكمة — تمنح الفيلسوف رؤياه الأخيرة.
وهنا، تتقاطع تجربة سقراط مع نيتشه على نحو غير متوقع.
نيتشه اعتزل الناس لأنه لم يجد من يصغي، وسقراط صرخ في الناس لأنه لم يجد من يفكر.
ثم نلتقي بـ هايدغر، في كوخه الخشبي في جبال الغابة السوداء، هاربًا من صخب المدينة. وكان إذا سُئل عن عزلته، قال:
“ما أعيشه ليس عزلة، بل وحدة. في المدن الكبيرة، بإمكان الإنسان أن يكون منعزلاً أكثر من أيّ مكان آخر، لكنه لا يستطيع أن يكون وحيدًا” ، المدينة في نظره، لا تضمن المعنى، بل تضيّعه ،كلما زادت الأضواء، خَفَتَ البصر، وكلما اشتد الزحام، غرق صوت الذات في جلبة الحشود.
ولست أقول هذا لأني أنتمي للصحراء، أو لأن الغابة تسحرني، بل لأنني رأيت بعيني كيف تقتل المدينة العمق، وتربّي طقوس الخضوع، وتُربك البصيرة بكثرة العروض، إن العزلة لا تُقصي الإنسان عن العالم، بل ترده إلى جوهره، إلى سؤاله الأول، إلى فطرته التي ضيّعها في زحمة الجدران.
لذلك أؤمن، لا اعتقادًا فلسفيًا فحسب، بل من تجربة، أن:
العزلة ليست انكفاءً، بل انكشاف.
هي ليست انسحابًا، بل انتصابٌ أمام الذات.
هي المرآة التي لا تُصنع في الأسواق، بل تُنحت في صمت الداخل.
الناي الذي غنّى في الفراغ
كلما حاولت أن أصف نيتشه، وجدتني أقف حائرًا بين الصمت والكلمة. كأن الكلام عنه يظل دومًا أقل من التجربة، وأقل من الصرخة التي ظل يطلقها وحده، بلا جمهور، بلا وطن، بلا بيت. إنه فيلسوف، نعم. لكنه أيضًا شاعر خذله الإيقاع، ومُغنٍّ لم يجد نايه إلا في صمته. كان نيتشه صوتًا، لا بالمعنى المجازي، بل بمعناه الحرفي: صوتًا يعلو من داخل الفراغ، لا يبحث عن صدى، بل عن مدى.
لم يكن يريد أن يُسمَع، بل أن يُكتشف.
في زمنٍ كانت الفلسفة فيه تعتمر قبعة العلم أو عمامة اللاهوت، جاء نيتشه عاريًا من كل انتماء، وكتب كمن يزرع شوكًا في طريق القطيع. لم يكن يفكر داخل النسق، بل خارجه. لم يكتب ليشرح، بل ليوقظ. لم يُلقِ المحاضرات، بل نحت شذرات، وكتب نصوصًا كأنها تراتيل تصعد من كهفٍ جبلي لا يسمعها إلا من تجرّد من كل ما ألبسته المدينة.
لقد كان رجلًا ينهض من الألم، ويخطو ببطء، لكن كل خطوة له كانت زلزالًا.
في إحدى لحظاته المشتعلة يقول:
“إنسانيتي هي تجاوز متواصل للذات، إلا أنني بحاجة إلى العزلة… أعني إلى المعافاة، وإلى العودة إلى الحياة، والتنفس من هواء خفيف لاعب طلق.”
(هكذا تكلم زرادشت، المقطع 34)
كأنما يكتب وهو يتنفس بين نصلين: المرض الذي ينهش جسده، والمدينة التي تلوث روحه.
كان نيتشه يمقت صخب المدينة، لا لأنها تضج فقط، بل لأنها تُفسد الذائقة، تُبلّد الروح، وتدفع الإنسان إلى أن يكون مجرد تكرار لصدى الآخرين. رأى أن المدينة تُغريك بالارتباط، وتُنسيك كيف تكون وحيدًا بحق. بينما في الغابة، حيث لا شيء يُشبهك، هناك فقط تكتشف من أنت.
“أحب الغاب، فما تسهل حياة المدن عليّ، وقد كثر فيها عبيد الشهوات الثائرات.”
(هكذا تكلم زرادشت)
قالها بوضوح. لم يكن في الغابة منبر ولا جمهور، لكن كان فيها الصدق، ذلك الذي لا يحتمله الإنسان المتحضّر كثير الحسابات.
وحين اشتد عليه المرض، لم يُذعن، بل انفجر. كتب وهو يتألم. تقيأ الفلسفة من أمعائه كما قال عن شوبنهاور من قبل. كلما زاد السعال، اشتعل القلم. يتنقل من نيس إلى جنوى إلى سورينتو، يحمل جسده النحيل، ويحمل معه دفاتره، في رحلة تبدو هروبًا، لكنها في الحقيقة مطاردة للحظة الصفاء.
في إحدى رسائله كتب:
“لقد اكتشفت الحياة من جديد، بما في ذلك نفسي… وغدا بوسعي أن أتذوق كل الأشياء الطيبة، بما في ذلك الأشياء الصغيرة، كما لا يستطيع أحد آخر أن يتذوقها بتلك السهولة.”
(هذا هو الإنسان، ص18)
المرض الذي يسحق غيره، أصبح عنده آلة صقل. والوحدة التي يخشاها الآخرون، تحوّلت عنده إلى نايٍ داخلي يعزف من عمق الجراح.
ولو التقى نيتشه بـديستويفسكي، ذاك الذي حفر في نَفَس الإنسان المكسور، لرأيت بينهما نهرًا مشتركًا، لكن كلٌ على ضفته: ديستويفسكي يرى في الألم تطهيرًا، طريقًا للنعمة. أما نيتشه، فيرى أن الألم هو مادة الحياة، لا طريق النجاة. فبينما يهمس الأول بأن الإنسان يولد مرتين من الحزن، يصرخ الثاني بأن الإنسان لا يولد إلا حين يتجاوز نفسه، لا حين يطلب الغفران.
ولو عبر توماس مان فجأة من أفق النص، لابتسم ابتسامة باردة، وهو يروي كيف يمكن للفن أن ينمو من العزلة. لكنه سرعان ما سيرتد، لأن نيتشه لا يصنع من العزلة صومعة، بل مختبرًا للقوة، ساحة مصارعة بين النفس وضعفها، بين السؤال والموروث. فنيتشه ليس ناسكًا، بل مفككًا… لا يبتعد لينجو، بل لينقضّ.
بل حتى بودلير، ذلك الذي رمى بنفسه في ظلال المدينة، باحثًا عن زهرة شرّ، سيجد نفسه أمام نيتشه مندهشًا: كيف لرجلٍ يهرب من المدينة أن يعثر على جوهرها، فيفضح زيفها دون أن يغرق في وحلها؟ كأن نيتشه ظل يراقب المدينة من حواف الغابة، يسجل نبضها ويحسب دقات انحطاطها، دون أن يخطو إليها إلا ليصفعها.
بل حتى الشاعر الجاهلي، الذي نادى في الصحراء:
“ألا لا يَجهلن أحدٌ علينا… فنجهلَ فوق جهلِ الجاهلينا”
ربما كان أول من فهم ما يقوله نيتشه، وإن لم يسمعه. فكلاهما يدافع عن كرامة الإنسان ضد سطوة الجمع، عن نبالة الفرد في وجه ابتذال الجماعة.
هذا هو نيتشه. لا “قيمة” لديه ثابتة، لأنه لا يكتب من أجل السلطة، ولا من أجل الإجماع، بل من أجل أن يُشعل في الإنسان جمر السؤال. لذلك، كان خصيم المدينة، ومحب الخلاء، لأنه كان يعرف أن السؤال لا يولد إلا في الصمت، في البعد، في البرية.
كأن نيتشه كان يقول:
“أيها الإنسان، لا تُكثِر من الأجوبة، بل أَحسِن العزلة”
أحب الغاب فما تسهل حياة المدن علي و قد كثر فيها عبيد الشهوات الثائرات
نيتشه - هكذا تكلم زرادشت
نيتشه ضداً للمدينة
هكذا كانت حياته وهكذا كان زرادشته، كلما اشتد مرضه زاد توهجاً ، يرتحل في أرجاء أوروبا وحيداً يلتقي بشخصيات عديدة ولكن ما إن يندمج بمجتمع حتى يكفر به وينقلب عليه وينطوي على ذاته ، كان نيتشه يعاني من أمراض عدة جعلته أشبه بعاجز أحياناً، كانت نوبات الصداع الرهيـبة تكاد تفتك به ، لا يفيده دواء ولا مخدر لكنه رغم ذلك يجد موهبته تتفجر كلما قسيت أيامه ، كان يكتب بنهم بالقرب من جنوا بينما المرض يشتد عليه ، يتنقل بين مدن أوروبا والمنديل على فِيه من كثرة السعال ثم ماذا؟! نتاج تلو نتاج كأغنية من أغنيات فاغنر ، تصاعد رهيب يصل بذروته الى زرادشت ثم تتلوه مؤلفات أُخَرْ ثم ثلاشٍ ينتهي بجنونٍ كلي ثم وفاة .
إن المرض صار منحة بالنسبة اليه فهو سبب من أسباب وحدته التي جعلته أكثر حساً ، وهذا الحس يتجلى لديه بالذوق العالي والرهافة الشديدة لكل شيء وفي هذا المعنى يقول : هكذا تتراءى لي الآن تلك الفترة الطويلة من المرض : لقد اكتشفت الحياة من جديد، بما في ذلك نفسي، وغدا بوسعي أن أتذوق كل الأشياء الطيبة بما في ذلك الأشياء الصغيرة كما لا يستطيع أحد آخر أن يتذوقها بتلك السهولة. هذا هو الانسان (ص18).
لقد كان نيتشه وحيدا رغم ارتباطاته الاجتماعية ولعل صداقته بفاغنر تاج هذه العلاقات ، تمخض عنها ثلاثة كتب وعشرات من الشذرات الفلسفية ، انتهت هذه الصداقة بإنقلاب ومقت ، وكما أسلفت سابقاً تصاعدٌ ،تصاعدٌ ، ثم تلاشٍ فنهاية.
حين خانته الأوبرا
لم تكن مدينة بايرويت في ظاهرها سوى مسرح كبير. لكن لنيتشه، كانت أكثر من ذلك: كانت امتحانًا مرًّا، تعرّت فيه أحلامه، وخسر فيه آخر ما تبقى له من ثقة بالجمال حين يُمسَك من عنقه ويُساق إلى القداسة المزيفة.
ذهب نيتشه إلى بايرويت بعين التلميذ. تسبقه ذاكرته المترعة بموسيقى فاغنر، وصداقة كانت — في نظره — أعظم من الأخوّة. في فيلا “فاغنر”، حيث الأثاث الفاخر، والأصوات الأوبرالية، والعظمة الألمانية الكلاسيكية، ظن أنه سيجد بيت الفكرة، فإذا به يقف وسط معبدٍ لا يُعبد فيه الجمال، بل يُستهلك.
رأى أن فاغنر لم يعد فنانًا، بل صار كاهنًا لمقدّسٍ جديد، يوزع نشوته على الجماهير كما تُوزع الأسرار القديمة في المعابد الوثنية. فكل شيء في بايرويت كان مطليًا بماء الذهب، إلا الصدق، فقد كان غائبًا.
وهنا… بدأت القطيعة.
لم تكن قطيعة مع فاغنر فقط، بل مع كل شيء كان نيتشه يحسبه مأمنًا للفكرة. رأى أن الفن حين يتقدس يفسد، وأن الجمال إذا صار شعيرة يُؤدى في جماعة، فقد روحه الوحيدة. قالها لاحقًا بصراحة موجعة:
“أكره كل ما لا يجعلني أرقص.”
(هكذا تكلم زرادشت، الجزء الثاني، الفقرة 7)
لقد كانت الأوبرا في بايرويت حجرًا مقدّسًا، لكن نيتشه لم ير فيها سوى ضجيج يُستعمل لتنويم الناس، تمامًا كما تُستعمل الخُطَب اللاهوتية لتسكين العقل. ومن هناك، انفتح باب النقد الجذري للدين، لا من حيث أصل الإيمان، بل من حيث تمثيله الاجتماعي، ومؤسسته الكنسية.
نيتشه لم يكن ضد الإيمان، بل ضد ما آلت إليه صورة الإله في اللاهوت الكنسي، حيث يُقدَّم في صورة المصلوب، المنكسر، المعلّق على خشبة كرمز للخلاص. رآها نيتشه لا خلاصًا، بل إدانة للحياة، وتكريسًا للخضوع، وتجريدًا للإنسان من قوته الفطرية. فكتب في واحدة من أكثر فقراته حدة:
“في الصراع ضد الوحش، تكون إصابته بالمرض هي الوسيلة الوحيدة التي تمكن من إضعافه. وقد فهمت الكنيسة ذلك: لقد أفسدت الإنسان، وأضعفته، لكنها ادّعت لحسابها أنها قد ‘أصلحته’.”
(غسق الأوثان، فصل “مصلحو البشرية”، الفقرة 2، ترجمة مصباح، ص77)
هنا لا يهاجم نيتشه الله، وإنما يهاجم الصورة المصنوعة لله، تلك التي أُنتجت على يد القساوسة وسُيّجت بالمؤسسة. صورة تُرهب الناس لا لتحييهم، بل لتروّضهم. صورة تجعل من الإنسان مخلوقًا مذنبًا بالطبيعة، لا فخورًا بوجوده.
ومن موقعه هذا، كان نيتشه أكثر انصافًا حين نظر إلى الإسلام. لم يكن معتنقًا للدين، لكنه رأى في الإسلام خطابًا لا يُشبه الخطاب الكنسي، وجد فيه كرامة الإنسان أمام الله، لا شعوره بالذنب أمام الكنيسة. الإسلام لا يؤسس لعقيدة الخطيئة، ولا يطلب التكفير بالدم، بل يُعلن أن الإنسان ليس ضحية، بل مسؤول.
إن خيانة الأوبرا لم تكن خيانة نغمة فقط، بل خيانة “المقدّس”، حين تفرّغ من معناها وتُستعمل لتهدئة القطيع لا تحريره.
خرج نيتشه من بايرويت كمن انسلخ من جلده، ولم ينظر خلفه. كتب “قضية فاغنر”، و”نيتشه ضد فاغنر”، لا كمن يُصفّي حسابًا شخصيًا، بل كمن يُعلن القطيعة مع مدينة لا تفهم إلا التصفيق.
في بايرويت، لم تُخَنه الأوبرا فقط، بل خانه الجمال، وخانه الدين، وخانه الحلم.
فقرر أن يمضي وحده، بعصا الفيلسوف، على دربٍ لا يُمهد إلا في العزلة.
المدينة كقيدٍ أنيق
ليست المدينة جدرانًا، بل شبكة دقيقة من التواطؤ الخفي على الروح.تمنحك مقعدًا، لكنها تسرق منك المسافة.تمنحك جمهورًا، لكنها تسلبك الصوت.المدينة لا تحبّ الصوت الفذّ، بل تصفّق للصدًى.كل ما فيها يوحي بالأمان، لكنّه أمان مصنوع من الخضوع.الإيقاع اليومي، الضجيج المنتظم، الالتزامات الصغيرة التي تتكاثر حتى تتحوّل إلى حياة…
كل شيءٍ فيها يُقنعك بأنك بخير، فقط لأنك تُشبه الآخرين.
وهذا هو القيد:
أن تصير شبيهًا، لكي تُحتمل.
أن تُضعف نفسك لتُحسَب على الجماعة.أن تتخلّى عن قلق السؤال، من أجل دفء الانتماء.المدينة تقتل الفيلسوف.لا بالسيف، بل بالترفيه.لا تنفيه، بل تدمجه.تمنحه مقهى أنيقًا، ومكتبة واسعة، وأصدقاء مثقفين ،ثم تجرده من الوحشة، تلك التي تلد الحقيقة.
لذلك، ما إن يبدأ الفيلسوف في التعايش مع المدينة، حتى يبدأ بالتراجع عن نفسه.
سقراط لم يكن ابن أثينا، بل نذيرها.وهي لم تقتله إلا بعد أن صارت عاجزة عن تجاهله، ونيتشه؟ لم يكن يومًا رجل مقهى، ولا رجل صالون،بل كان كائنًا يخرج من كهفه كلما اشتدت عليه النار في الداخل،المدينة لم تطرده،وهي لم تقتله إلا بعد أن صارت عاجزة عن تجاهله.
وهذا أشد أنواع النفي:
أن تكون موجودًا في عين المكان، لكنك لا تُرى،لأنك لا تُحاكي، ولا تُقلّد، ولا تسهم في السوق.
ولذلك، كانت العزلة عند نيتشه ليست انسحابًا، بل استردادًا للعمق.
العزلة هي العودة إلى مقام الفرد، إلى نبرة الذات، إلى جرأة أن تفكر دون شهود.
وفي مقابلها، كانت المدينة جهاز تكييف عملاق: تُعدّل حرارةك الداخلية لتناسب المزاج العام.
ومن هنا، تبرز خطورة المدينة:
أنها لا تفرض عليك أن تكون زائفًا، بل تُقنعك أن الزيف شكلٌ من أشكال اللياقة.
المدينة تُشبه السجن الراقي:
فيه كل شيء… إلا الحرية
حين يتكلم نيتشه عن التغلب على الذات، لا يقصد به مجرد انتصار على الغرائز،
بل انتصار على المدينة التي في الداخل:
ذلك الصوت الخفي الذي يقول لك:
“كن مثلهم… لتُحَب.”
لكنك لا تستطيع أن تكون فيلسوفًا ومحبوبًا في الوقت ذاته،فالفكر لا يزهر في حضن الجماعة، بل في عراء الفقد،ولهذا، حين ترك نيتشه المدينة، لم يكن يهرب، بل يستعيد اسمه.
“ما من أحد يستطيع أن يبني لك الجسر الذي يجب أن تعبره أنت وحدك.”
(زرادشت)
هذه ليست حكمة… بل نفيٌ فلسفي لكل ما تتيحه المدينة.
هي تقيم الجسور، لكن الجسر الذي تحتاجه… لا تبنيه إلا العزلة.
وفي فلسفة هايدغر، تجد صدىً آخر لهذا الموقف.
المدينة عنده لا تتيح للفكر أن يولد، لأنها لا تسمح بالصمت،وهو نفسه حين بنى كوخه الخشبي في الغابة السوداء، لم يكن يصنع عزلة شاعر، بل يهيئ بيئة للفكر.
كتب في إحدى رسائله:
“الناس في المدن الكبيرة، يندهشون أحيانًا من عزلتي الطويلة في الجبال… لكنهم لا يعلمون أنني هناك لست معزولًا، بل وحيد.”
الوحدة وعيٌ بالحضور، أما العزلة فغرقٌ في الغياب.
وهذا هو مفتاح التفريق الذي لم تفهمه المدينة قط.
لكن العزلة ليست حكرًا على نيتشه، ولا على الغرب ففي التراث الإسلامي، عند أهل الزهد والسنة،كان الانفراد نوعًا من العبادة الواعية، لا انعزالًا مضطربًا.
قال الإمام أحمد بن حنبل:
“العزلة عن الناس أصل الدين، إن لم يكن فيها قطع للرحم، أو ترك للجمعة.”
وقال الإمام مالك — حين سُئل عن رجلٍ يجلس وحده يتعبّد:
“إذا كان يأنس بربه، فدعه وما اختار.”
وقال ابن تيمية:
“العزلة تكون نافعةً للعبد إذا خاف على نفسه الفتنة، أو كان في الخَلق منكر لا يستطيع إنكاره، أو كان حاله في خلوته أقرب للتقوى وأبعد عن الرياء.”
بل حتى الشافعي حسمها:
“من لم تعزّه العزلة، فلن تعزه الجماعة.”
فكلها عبارات تنحت نفس المعنى:
أن الانفراد ليس ترفًا، بل وسيلة لصدقٍ لا يتحقق في الزحام.
هنا لا يتكلم عن عزلة المكان، بل عن خوف الإنسان من تبدد المعنى تحت وطأة الزمان.
الدهر يفتك لا بالأجساد، بل بالثبات، والمدينة ما هي إلا تجمّع زائل تظنه وطنًا.
وهذا ما كان يهرب منه نيتشه:
الاستقرار المزيّف،الهوية التي يصوغها الجمع،الحياة التي تُحاكي أكثر مما تُولد.
في تلك اللحظة، تتقاطع الصحراء مع الغابة،ويتشابك لبيد مع زرادشت،كلاهما يتكلم من وحدةٍ شاسعة،لا يعرفها من يسكنون خلف الجدران.وهنا نرجع إلى نيتشه، من طريق آخر…
فنيتشه انسحب لأنه كان شديد الحساسية للزيف،لكنه لم يجد العزلة كما وجدها الصالحون،بل دخلها دون ضوء،وتاه فيها حتى احترق.
أهل السنة، من سفيان الثوري إلى ابن تيمية،علّمونا أن العزلة دواء،لكنها دواءٌ مرهون بالنية، مشروط بالبصيرة، موقّت بالحكمة.
لا تؤخذ على إطلاقها، ولا تُقدّس لذاتها، بل تُوزن بميزان القلب والعقل معًا،ونيشته… لم تكن له بوصلة إلا الألم،فكتب من وجعه، لا من يقينه،وبحث عن الله، لكن في مرآة مكسورة.
فأين له أن يجد النور،وهو لم يعرف طريق النور الذي خبّأه العلماء في بطون كتبهم،ولا جلس يومًا عند من يقول له:اجلس هنا، فالعزلة عبادة، لا يأسًا.
ولأن المدينة لا تصغي، والعزلة لا تعتذر،يبقى الفيلسوف معلقًا بين جدارين:جدار الجماعة التي لا تطيقه،وجدار الصمت الذي لا يُجيب،وهكذا، تبقى العزلة لا جوابًا،بل حالةُ صدقٍ مؤقتة يسترد فيها الإنسان صوته…
قبل أن يعود إلى العالم وقد نسي كيف يتكلم.
المدن العابرة والوجوه التي لا تُرى
كان نيتشه لا يطلب من المدن شيئًا، لكنه يمرّ بها كمن ينتظر اعتذارًا من العالم.
كل مدينة زارها لم تكن أرضًا، بل مرآة مكسورة، يرى في كل شق منها هيئة من هيئاته الماضية، التي ما عادت تصلح لعيشٍ أو فكر.
لم يكن نيتشه رحّالة، ولم يكن فيلسوفًا على طريق الترف الأكاديمي، بل كان صوتًا يتنقل بجسده العليل كي لا يموت صامتًا.
في سورينتو، جرّب لأول مرة أن يعاشر سكونًا لا يقطعه قلق.
جلس في ضوء الشرفات المائل، يقرأ، يكتب، يراقب الغيم وهو ينسحب من البحر كأنّه حلم لا يريد أن يوقظ أحدًا.
هناك، قال لنفسه: ربما أشفى…
لكن الداخل لا يُشفَى إلا إذا اعترف بالألم، ونيتشه لم يكن يرضى أن يعترف.
ثم نزل إلى جنوا، مدينة ليست من بحر، بل من ذاكرة.
كل شيء فيها كان رطبًا، رطبًا أكثر من اللازم: الهواء، الأوراق، الأمل، الرئة…
كتب هنالك على المقعد الخشبي المطل على الساحل، بينما الألم يضرب رأسه مثل مطرٍ صيفي لا يستأذن.
قال يومها — ولم يكتبه — إن الفلاسفة لا يحتاجون إلى كتب، بل إلى نوافذ.
وفي نيس، حيث الحنين يُكتب بخفة،حاول أن يخدع نفسه بأن دفء الجوّ دواء.
لكن نيتشه ما كان يشفى من العِلّة، لأن علّته كانت المعنى.
المدينة كانت جميلة،لكن لا شيء في الخارج يعوّض ما تمزّق في الداخل.
أما تورينو، فكانت الضربة الأخيرة.
المدينة الهادئة، الشوارع التي تشبه سيمفونية خاملة،النهارات المسترخية، والنوافذ التي لا تُغلق…
هنا كتب “هذا هو الإنسان”،كأنما يلقي سيرته في هاوية بلا صدى.
وهنا، في يومٍ خريفي باهت،احتضن حصانًا مضروبًا في أحد الأزقة،وانكسر.
كان ذلك الانهيار الذي لم يكن جنونًا بقدر ما كان رفضًا،رفضًا لحياة لا يسمع فيها أحد صوت الناي.
المدن، يا صاحبي، لم تكن “أماكن” في حياة نيتشه، بل كانت نُسخًا من الغياب.
كل واحدة جرّب فيها أن يكون إنسانًا… فلم ينجح.
كل واحدة كتب فيها كتابًا… ثم كفّر به.
كل واحدة أحبّ فيها أحدًا… ثم خاصمه.
حتى المدينة التي كان فيها طالبًا صغيرًا، عاد لها في أوراقه لا ليزورها، بل ليلعن كيف يمكن للأمكنة أن تسرقنا ثم تمضي دون أن تودّع.
الناس يركضون من بلدٍ إلى بلد، طلبًا للراحة، أو الطمأنينة، أو الثراء.
أما هو، فكان يتنقّل ليهرب من صوته حين يكون حادًا جدًا، ومن العالم حين يكون غبيًا جدًا.
كان يعرف أن لا مكان له،لكنه أيضًا يعرف أن لا فكرة تولد إلا في ظِلّ غربة.
وهو كان الغريب الأوحد، الغريب الذي كتب دون أن يطلب قارئًا،ومشى دون أن ينتظر يدًا تمسك به عند المنعطف.
ولو سألته تورينو وهو يرحل عنها:
“هل وجدت وطنك؟”
لأجابها:
وطني هو السطر التالي، والمدينة القادمة، والجدار الذي سأكتب عليه حتى لو لم يقرأ أحد.
حين تكلّمت العزلة وحدها
في النهاية، لم يكن الصمت هو ما ابتلع نيتشه،بل كانت العزلة، وقد بلغت ذروتها، فصارت هي التي تتكلم…
تكلمت لا بالكلام، بل بغياب كل صوت سواها.
نيتشه، الذي كتب آلاف الصفحات،أُغلق عليه الباب ذات يوم…
وما عاد منه سوى الهمهمة،وما عادت له سوى الابتسامة التي لا تعرف لمن تُوجَّه،في تلك الأيام الأخيرة، لم يكن العالم أقل قسوة،لكن نيتشه لم يعُد قادرًا على وصفه.
مات نيتشه فعليًا قبل موته الجسدي بسنوات.
لكن موته لم يكن ضجيجًا.
بل كان انطفاءً هادئًا، كما تنطفئ عينٌ كانت تُحدّق في شيء لا نراه.
حين رأته أخته للمرة الأولى بعد انكساره،كان جالسًا على كرسي في تورينو،يحدق في الا شيء،ويمسّد بيده لحيةً لم يكن يعتني بها،لم يسألها عن أحوالها،لم يذكر الكتب،لم يذكر أحدًا،كأنه نسي العالم،أو كأن العالم سقط من ذاكرته دون أن يندم عليه.
لقد كان الجنون في حالته امتدادًا للعقل لا ضده،فنيتشه لم يفقد عقله لأنه انحرف،بل لأنه ذهب بالعقل إلى حده الأقصى،إلى تلك المنطقة التي لا يتحملها الجسد، ولا تستوعبها اللغة.
كان قد جرّب كل شيء:
– تكلّم مع الفلاسفة.
– تصالح مع الشعراء.
– خاصم أصدقاءه.
– أنكر آلهة قومه.
– نادى بـ “الإنسان الأعلى”.
– ثم وجد نفسه… وحده.
وهنا، تكلّمت العزلة.
كانت تورينو آخر النغمة في سمفونية نيتشه،وهناك، حين رأى الحصان يُجلد في السوق،ألقى بجسده عليه،احتضنه،وبكى،لم تكن دموعه من أجل الحيوان،بل من أجل الإنسان،الذي صار يضرب كل شيء: الحيوان، الحقيقة، المعنى، بل وحتى مَن أراد أن يُنقذ الإنسان نفسه.
في الغرفة التي سُجن فيها نيتشه لاحقًا،وضعوا له أدوية،ووضعوا حوله من يراقبه،لكنهم ما عرفوا كيف يعالجون رجلًا لم يمرض بجسده، بل بنظره،إن نيتشه ما أُصيب بالجنون كما يُصاب به المرضى،بل دخل الجنون كما يدخل البحر:موجة بعد موجة، حتى لم يعد يرى اليابسة.
في رسائله الأخيرة المعروفة بـ”رسائل الجنون” كان يوقع باسم “ديونيسيوس”، أو “المصلوب”،لم يكن يسخر، ولم يكن يهذي.
بل كان يحاول أن ينقذ رماد الفكرة المتبقية، حتى لو في صيغة هذيان.
جلس في منزله بعد ذلك، لا يقرأ ولا يكتب،يأكل بصمت، ينظر طويلاً إلى الأبواب،
ويبتسم للزائر كما يبتسم من لا يعرف الفرق بين الغريب والرفيق.
أصبح وجهه صافيًا… صافيًا جدًا،
لكن ليس فيه حياة.
كأن كل شيء فيه انتهى،
إلا جمال الصمت.
ومات بعدها… كما تموت شجرة انتهى ظلها.
دفنوه بجوار والده،
ورفعوا شاهدة عليها اسمه،
لكن لم يكتبوا تحتها:
“هذا هو الإنسان”.
هكذا تكلّمت العزلة.
ولم تكن تقول شيئًا…
بل كانت هي الشيء نفسه.
الصمت الذي بقي بعد نيتشه،
هو آخر جملة كتبها دون يد.
وآخر نغمة قالها دون ناي.
وآخر سؤالٍ لم يجب عليه أحد