أبو الأذنين
قصة قصيرة
قبل أن يخترع الإنسان فكرة التسمية, تحديداً في ذلك الزمن البعيد حدثت هذه القصة
لم يعلم ذلك الطفل الصغير “أبو الأذنين” أنه سيقضي حياته بحثاً عن صفة أخرى تلتصق به كأذنيه اللتين لم تكونا كبيرتين إلى ذلك الحد .. كل ما في الأمر أن رأسه صغير، بل إن أذني أخاه الأكبر أكبر, لكن رأسه الذي بالكاد خرج من بطن أمه شفع له, ومنذ ذلك اليوم وهو “الرأس” قالها والده يسخر منه وها هو الآن يتباهى به بين الناس.
يكبر ولم تكبر معه أذنيه وأصبح رأسه كبيراً بما فيه الكفاية ولا يزال الجميع يرى أذناه كبيرتان, حتى الغريب الذي يمر بالقرية ويراه للمرة الأولى يراهما قبل أن يرى أي جزء آخر من جسده.
"أنا لست أبو ال .. لست أبو ال" كان يرددها في نفسه دائماً لكنه لم يكن يستطع أن يكمل تلك الكلمة عجزاً وليس عمداً, كان على استعداد أن يفعل أي شيء ليحصل على لقب آخر يفتخر به ويرتفع رأسه الصغير فرحاً به بدلاً من غرسة بين كتفيه، غرسة صغيرة جداً لم يكن يلاحظها أحد سواه.
يغار من أخيه الأصغر الذي أصبح الناس ينادونه “الجسور” بعد أن أنقذ الطفلة ذات النمش من الضبع الأعور في الشتاء الماضي لا زال البعض يناديه الأعرج لكنهم كانو يضيفون عليها الجسور "الأعرج الجسور" وبالأخص إذا رمقهم بنظرة جسورة كتلك التي رمى بها “الأعور” ذاك المساء فهرب بها كما روت ذات النمش.
كانت تمر عليه الشتاءات أبرد من الجميع، كما لو كانت النار التي يشعلها ليتدفأ بها تشوي معطفه البالي، الذي نسميه في أيامنا هذه الجلد، ويظل قلبه قطعة من الثلج متجمدة في صدره لا تذوب أبداً.
وفي ليلة كالحة وقف شارداً ينظر للسماء الداكنة، حينها كان القمر قوساً وشهاب خاطف ينطلق منه تمنى لو كان هو الشيطان الذي انطلق ليخطفه هذا السهم الطائش.
ومن خلف التل المتورم أنين مستغيث, هل أصابه الشهاب؟ اتجه إليه فبدأ يتضح النداء "أنقذوني أنقذوني" اقترب من البئر المهجور فإذا به ابتلع رجلاً يئن من الألم, لم يزد أن قال له: "اطمئن" وخلف شفتيه تختبيء ابتسامة حاولت الخروج عدة مرات لتنظر إلى خلاصها, كان يحبسها ويمنعها من الهروب, اختلطت لديه المشاعر حينها فلا يدري! هل ينبغي عليه أن يحزن لما أصاب هذا الرجل من عناء وألم! أم يفرح لأنه سيعود معه بلقب جديد يحسد عليه؟ وقد كان يدرك من تجربة كما لا يدرك أحدُ آخر, أن الذي لا يملك ما يحسد عليه أحق بالشفقة من المحسود .. وأن حسده أغرب الحسد, وهو أن تحسد المحسودين على حسَّادهم, فربما تتكبد عناء الحصول على أشياء لا لأنك تريدها, بل لأن الحسَّاد يريدونها, ولا لتملكها أنت بل لأنهم لا يملكونها.
أغرب الحسد أن تحسد المحسودين على حسَّادهم, فتتكبد عناء الحصول على أشياء لا لأنك تريدها, بل لأن الحسَّاد يريدونها, ولا لتملكها أنت بل لأنهم لا يملكونها.
رمى الحبل المترهل الملقى على حافة البئر المهجور, تشبث به الرجل المصاب, كلاهما ينظر للآخر بعينين ملؤها الأمل يقولان بصدىً لا صوت له "أنت منقذي أنت خلاصي أنت بطلي أنت أملي الوحيد تمسك بي جيداً".
كان أبو الأذنين يشدُّ الحبل يشدُّ مستقبله المضيء, حياته القادمه, فخره, رأسه المرفوع بلا أذنين, كما كان يتخيله نعم هكذا بلا أذنين, وكان الرجل المصاب يجر أجله الذي كاد أن يفلت منه على حين غره, وكلما اقتربا من بعضهما تتسع الابتسامة, وفي منتصف المسافة بدأ الحبل المترهل يرتجف ينتفض يتقطع بين أيديهم خيطاً خيطاً, صوت الخيوط كالسياط تلسع قلبيهما لسعات هي الثواني التي تبقت من أجل المصاب وأمل أبو الأذنين, صرخوا بنفس اللحظة بصوت لم يُسمع له صدىً ربما من قوته أو من هول الموقف!
كاد أن يصل إلا أن أبو الأذنين شعر أنه لو نجا بهذه السهولة فقد لا يحصل على لقب جديد, وتكون مجرد حادثة عابرة, فبدأ يتباطأ في سحب المصاب حتى ينقطع الحبل, ولكن ماذا لو سقط ومات! لم يكن هناك متسع من الوقت للتفكير.
نزع الشال الرمادي من فراء الثعلب الذي أهداه له أبوه عندما عاد من رحلة الصيد التي لقبوه بعدها “الصياد” وتذكر حينها تلك اللحظة التاريخية وعاشها بخياله وتمنى أن يحياها قبل موته, ألقى شاله على المصاب فأمسك به في اللحظة التي انقطع فيها الحبل المترهل, عض عليه بيديه ولم أتبين أيهما الذي تمتم بهذه العبارة وهو يعض على أسنانه “أروع لحظات الحياة على حافة الموت" هل فرَّ الثعلب الرمادي من بين أصابعه أم هو الذي أرخى سدوله، سقط الفراء على عينين جاحظتين, أمسك المصاب حافة البئر المهترئة كالغريق تفتت الحصى على فمه الجاف ..
شعر أبو الأذنين بالرضا وقال لنفسه أعتقد أنني فعلت ما يكفي, رفعه للأعلى بقوة كاد أن يفلت منه لولا أن سحبه وأخرجه جاثياً على ركبتيه يستنشق الحياة, ورغم كل الألم لاحظ الرجال المصاب أن من أنقذه هو الذي بادره واحتضنه بفرح وهو يردد حمداً لك يا رب, لم يفهم السبب حينها, نزع وشاحه الأسود وغطا به كتفي المصاب, ورغم أن ما بقي من فرو الثعلب كان كافياً إلا أنه نزع قميصه الأبيض وربط به رجله التي كانت تنزف, وبحركتين سريعتين نزل على الأرض ورفعه وألقاه على ظهره بنشوة كما يحمل الصياد غنيمة ثمينة, وكان الرجل المصاب يشعر بنفس شعور ذلك الغزال الذي اصطاده قبل أيام ..
مشى به متباطئاً وهو يقول في نفسه: المنايا لا تختار إلا الأخيار أما الأشرار فهي تأخذهم في النهاية عندما لا يكون لديها خيار آخر.
اتخذ الطريق الأبعد إلى بيته لم يعرف من أين حصل على تلك القوة, لم يخطر بباله هذا السؤال إلا بعد حين, سار يواجه البرد القارص بصدره العاري, ولحسن حظه رأته المرأة البوق في مشهد مهيب, عندها أسرع بالخطى كان يعلم أن طرف لسان ذلك البوق يكفي أن يوصل الخبر للقرى المجاورة في لمح البصر, أو ربما سارع خطاه كي يبعث في نفسها المزيد من الفضول لا أحد يدري ربما حتى هو.
وصل إلى البيت طببه وأطعمه نام المصاب وأبو الأذنين لم تغمض له أذن, وعندما طلعت الشمس وقد كانت مشرقة كما لم تكن من قبل, أيقظ الرجل المصاب وقال له هيا بنا إلى السوق. قالها بثقة وحزم أشعرت المصاب أن ليس له خيار آخر, وبلا شعور منه أراد أن يحمله كما فعل بالأمس, فقال له المصاب على رسلك استطيع المشي كل ما أحتاجه عكاز فقط عكاز ..
سحب الخشبة التي كان يغلق بها باب بيته وأعطاها له, كانت العصا قصيرة أو ربما كان الرجل المصاب طويلاً, لا يهم ..
هل كانت العصا قصيرة أم كان الرجل طويلاً!
الفرحة التي غمرت أبو الأذنين جعلته لا يشعر بالحمى التي كانت تسري في عروقه, ظل طوال الطريق سارحاً يتخيل ما هو اللقب الجديد الذي سيمنحه الناس له عندما يعرفون قصته "المنقذ" لا .. لا يمكن إن هذا اللقب حصل عليه أحدهم قبل أيام "الشهم" جميل "الحبل المتين" فكرة جيدة "الذراع الأيمن" لا يهم أي نعت سيكون أفضل من ذلك النعت المشؤوم ..
لم يكن أحد يعرف كيف بدأت الفكرة! وكيف تطورت!! كيف يلتصق لقب بأحد دون آخر؟! .. كأن الناس كلهم قد اتفقوا على أحد الألقاب دون أن يتفقوا, لا يمكنك أن تحصي الألقاب التي رماها البعض ومع ذلك لم يصدف أن التصق نعت واحد منها بأحد, والبعض الآخر كالنعَّات ذلك الشيخ العجوز الذي كان صموتاً طوال الوقت فإذا رمى نعتاً التصق بصاحبه كظله لا ينفك عنه إلا إذا أصبح بلا ظل, لا أحد يعرف تفسيراً لذلك, مئات النعوت تقذف وتموت ولا يبقى إلا واحد يلتصق بك كعضو من أعضاء جسدك لا ينفك عنك إلا بجرح عميق قد يؤدي إلى هلاكك بل قد تموت أنت ويبقى لقبك حياً لا يرزق.
وهل هذه الطريقة رغم ما فيها أكثر عدلاً من تخمين الاسم الذي يطلق على طفل في كثير من الأحيان قبل أن تراه, وليس لديك طريقة تعرف بها هل هذا الاسم سينطبق عليه, سيحبه, ولو كان له الخيار هل سيختاره؟ وإن غيَّره فلن يستطيع تغيير باقي السلسلة التي هو طرفها الذي قد ينتهي.
وصلا إلى السوق فاستقبله الناس استقبال الفاتحين, وبدأو يقذفونه بأروع الألقاب التي يتمناها أي إنسان في ذلك الوقت وربما حتى اليوم, كان يستقبلها كأوسمة على صدره, مع كل لقب يسمعه يرتفع عن الأرض قليلاً, يبث في جسده رعشة الحياة من جديد لقد أحس بشعور والده الصيَّاد أخيراً تلك هي السعادة, تلك هي الحياة التي أستحقها..
نظر إلى النعَّات ورشاه بابتسامة خاصة, وعيناه تبرقان بالامتنان لعلَّه يرميه بلقب أنيق فيضمن التصاقه به بقية حياته, وقبل أن ينطق النعَّات هبَّت ريح غربيَّة من جهة البوق عندما قالت: “أنت بالفعل رجل عظيم كيف استطعت أن تسمع أنين المصاب من جوف البئر! ونحن لم نسمعه مع أن بيوتنا أقرب من بيتك!!”
ترنَّح الصاري واهتزَّ الشِّراعان, عندها نطق النعَّات فقال : "نعم" حينها سكت الجميع كما هي العادة إذا نطق الذين لا يتكلمون إلا قليلاً، قال بصوت خافت "لطالما نعتوك أبو الأذنين تقليلاً من شأنك وكنت تخجل من ذلك، أما وأنَّ هاتين الأذنين أنقذتا إنساناً من الموت المحتم فحق لك من هذه اللحظة أن تفخر بهما لا أن تخجل منهما, أنت من هذه اللَّحظة أبو الأذنين, فلتفخر"
فقالت البوق بصوت عالٍ وردد الآخرون معها:
نعم أنت أبو الأذنين فلتفخر
أنت أبو الأذنين فلتفخر
عاد إلى بيته مرفوع الرأس والأذنين، والناس من حوله يهتفون على طول الطريق، وابتسامة حائرة خلف ثغره، وقد بدأت قطعة الثلج التي خلف أضلعه تذوب, وقال في نفسه لأول مرة في حياته:
نعم ..
أنا أبو الأذنين, أنا أبو الأذنين