تصنّع

تستفزني قليلًا الأعمال الفنية التي أشعر أن القائم عليها كانت نيته في العمل الاستعراض على الناس، ليُرشح عمله الفني، ويعلّق في معرض. أشعر أن العملية الفنية هنا جوفاء ومتصنّعة، وتنعكس على العمل الفني. لا ينطبق حكمي بالضرورة على كل الأعمال الفنية في المعارض.


الفن

يخبرنا علي عزت بيگوفيتش أن القيمة الحقيقة للفن لا تكمن في العمل الفني، بل في ما يحدث في وجدان الإنسان، وعالمه الجواني أثناء ممارسته للفن. الحالة التي يكون عليها أثناء الرسم أو العزف أو كتابة معزوفة هي الأهم. أما العمل الفني، فما هو إلا إنعكاس في العالم المادي لما يحدث في وجدان الإنسان. 

بجوار بيت السحيمي في القاهرة، أكثر أحياء المدينة عشوائية وفقرًا، رأيت طبعات اليد هذه على الجدار. سببت لي حالة من الذهول، هي في نظري عملٌ فنّي أصيل، لا تصنّع هنا. فقط إنسان يعبرّ عن ما بداخله، لم يطبعها لأنه أراد أن تعلّق في معرض ولا لتكتب عنها تقارير، فقط إستجابة لصوت ملحّ داخله. طبع صاحبها يده لأجل الفن، فقط. تمامًا مثل زملائه في نجران، عندما طبعو أيديهم على صخرة يدمة، قبل أكثر من 2000 سنة.

محمد أسد

في طريقه إلى مكة، يصف محمد أسد الأناشيد التي يغنيها رجال القوافل المنتشرة في جزيرة العرب لإبلهم حتى تبقى "منتظمة الخطو سريعة، وليطردوا هم أنفسهم النعاس عن أعنيهم."


يصف الأغاني ويقول: "أناشيد رجال الصحراء الذين ألفوا فضاءًا لا يعرف الحدود ولا الأصداء; ذات طبقة واحدة لا تتغير، مسترخية مبحوحة إلى حد ما."


تحدّث أسد عن تاريخ هذه الأغاني فقال: " لابدّ أن يكون أبوه قد غنّى من قبله، وجميع رجال قبيلته وغيرها من القبائل خلال آلاف من السنين، ذلك أن آلافًا من السنين كانت ضرورية لصوغ هذه النغمات والألحان والنغمات الرتيبة إلى الحدود، ولإعطاء شكلها النهائي الحاضر. دائماً تميل إلى أن تعبّر عن شعور الفرد."


أثناء ترحاله، سمع أسد بدويًا أميًا يتلو أبياتا ً للمتنبي وعلّق على ذلك وقال: " تشارك جماهير غفيرة من المسلمين غير المثقفين، وأحياناً الأميين أنفسهم، يومياً وبصورة واعية بمآثر ماضيهم الثقافية." وفسّر أحد الأسباب لذلك حيث كتب: " تمكن من أن يذكر أبياتاً من شعر المتنبي تناسب المقام وتمثل حالة شهدها بنفسه.” 


هنا البدو كانو يرددون قصائد لشاعر عربي عاش قبلهم ب 1000سنة، ولكنه لم ينفصل عنهم بل تمدد معهم إلى أن وصلهم بعد عبور آلاف الأجيال.


ما بعد الطفرة

أما اليوم، فقد زحزحت الطفرة ارتباط الإنسان بتراثة، ولم يعد جزءً من تمدد ثقافة أجداده من آلاف السنوت. جيل ما بعد الطفرة، المتعلم منه والأمّي، لا يشارك مآثر ماضيه الثقافي، ولا يحفظ أبيات المتنبي، ولا يردد أغاني الصحراء التي كانت تعبّر عن شعور أجداده، لأنها لم تعد تناسب الحالة التي يشهدها كما قال أسد. وهو تغيير جذري أخرج جيل مختلف تمامًا عن أبائهم الذين ما زالو يرددون: “يالله ويالله، غفار الزلة”و “يا ناشد عني تراني شليويح”.


تصنّع التراث

عندما يستخدم شباب ما بعد الطفرة التراث في العمل الفني، يعمل الفنان على شيء هو منفصل عنه، وليس إمتدادًا له، حتى لو ظَن أن هذا التراث هو جزء من هويته، إلا أنه في نفس الوقت عنصر غريب عنه، تمامًا كما يرى المستعمر تراث الشعب المُستعمَر، وربما يحتذي به ويكتب عنه ويرسمه.


الفنان يعمل على عمل فنّي يظن أنه يمثله، وهو في الحقيقة يجهله تمامًا، ولا يعبّر عن شعوره كفرد.


فن أصيل

أما أصحاب طبعات اليد في نجران والقاهرة الذين تفصلهم 2000 سنة، فقد شعرت أنهم متصلين مع تراثهم الإنساني، لم تأتي حقبة فصلتهم فيها الحداثة عن جذورهم الثرية. هم إمتداد فطري وغير متصنّع لآلاف الأجيال قبلهم. وكذلك طبعات أيديهم، فهي تمثّلهم تمامًا وتعبّر عنهم كأفراد، وهذا برأيي هو الفن الأصيل.


Join