23 أبريل عام 2016
في قطار الخط البني في شيكاغو، بالاتجاه للكنيسة النيجيرية، بدأ جاري الأمريكي من أصل نيجيري بتهيأتي لما سأراه من ممارسات في الكنيسة تفاديًا للصدمة الحضارية التي كان متأكد من حدوثها لي.
بدأ بمعلومة كان يظن أنها ستكون غريبة على أنثى سعودية عربية مسلمة: ”حتى لا تنصدمي، نفصل في الكنيسة أماكن الجلوس بناءً على الجندر، النساء على اليمين، والرجال على اليسار“. تلا ذلك ملاحظة كان يقولها بجدية بالغة: ”وعلى النساء تغطية شعورهن بأقمشة متواجدة في الكنيسة“، ثم بدت على وجهه ملامح وكأنه أدرك فجأة أنه يتحدث لمسلمة محجبة. ابتسم وقال: ”أوه، لا أظن أن لديك مشكلة“. ثم قال: ”كما أن للنيجيرين رؤية مرنة ومسترخية للوقت“، وكانت آخر معلومة هي: ”ربما نبالغ نحن النيجيريين في احترام وتقديس الكبار أثناء التحية“.
وصلنا لمحطة كيدزي، ثم بعد عشر دقائق من السير، دخلنا الكنيسة. كان المدخل يعج بالنيجيرين من فئات عمرية مختلفة، عليهم رداء أبيض طويل بشرائط حمراء على الأكمام وعلى خاصرتهم، والسيدات مغطين رؤوسهن بأقمشة بيضاء تشبه قبعة الطبّاخ. كانت ردة فعل الجميع أثناء رؤية ديبو (جاري) الصراخ والترحيب الحار، تمامًا مثل الترحيب بحفيد عائد من السفر أثناء دخوله بيت جدته. ركض الأطفال باتجاهه، وكان ديبو يبادلهم الترحيب ويُسمي كل طفل باسمه ويعطيه اهتمامًا خاص. عرّفني على الجميع، ولقيت منهم ترحيب لطيف صادق ذكرني بدفأ الشرق الأوسط بعد غياب طويل.
كانت الجلسة الدينية مجدولة الساعة السادسة، وساعة دخولنا تشير على السابعة والنصف. تبيّن أن الجلسة لم تبدأ بعد، قلت له أنني كنت أظن أننا متأخرين، رفع كتفيه وهو يضحك قائلًا أن هذا ما قصده بـ“رؤية مرنة ومسترخية للوقت“.
دخلنا الغرفة الرئيسية، كانت الكراسي مصفوفة ويقابلها في الزاوية على اليسار في المقدمة فرقة موسيقية تُحضّر معداتها وخلفهم سماعات كبيرة تصدر منها أصوات بعض الآلات أثناء استعداد الفرقة و”تحمية الطيران“.
هَلَل القسيس عند رؤية ديبو، فاتجه له ديبو وعندما اقترب منه، هبط على الأرض وانبطح على بطنه بكامل جسمه الطويل وكأنه غطّى نصف الغرفة، ورفع يده اليمين ووضعها على حذاء القسيس يطلب البركة، ثم وقف بخفة على قدميه ووضع يده على قلبه وعانق القسيس بحرارة الذي كان بدوره يطلق الأدعية بالبركة.
بدأ القسيس بكلمته الترحيبية وعلى وجهه ابتسامة مشرقة، وبعد ترديد الوعائظ الاجتماعية الأخلاقية، أشار للفرقة الموسيقية أن تبدأ العزف. كان الصوت صاخب على غرفة صغيرة، لدرجة أني كنت أشعر بالصوت في معدتي. عندها وقف الجميع وبدأو بالتصفيق وهم يهزون أجسادهم طربًا. كان هزّ أجسادهم والأجواء تحيل بقرب حدوث شيء كبير.
الموسيقا تزيد الحماس تدريجيًا إلى أن وصلت لنقطة قفز فيها بعض الواقفين عند كراسيهم إلى المكان الخالي في المقدمة، وبدأوا يرقصون على وتيرة واحدة، كلٌ يستجيب جسده لما يسمعه لا ما يراه، ولكني ظننت وأنا أرى تجانس رقصهم وكأنهم تدربو عليه مئات المرات.
عندها خطرت في ذهني وصف مالكوم إكس لساحات الحفلات في بوسطن في الأربعينات عندما كان يلمّع الأحذية ويجد في فترات الراحة فرصة لمشاهدة الرقص. كانت الساحة مكان يقيم فيه كل من البيض والسود حفلاتهم. يصف مالكوم رقص البيض: ”وكأن أحدًا درّبهم على الرقص - يسار، واحد، اثنين، يمين، ثلاثة، أربعة - تتكرر نفس الخطوات والتصميم، وكأنهم مصابين بجروح“.
ثم يقارن رقص السود ويقول: “لا يمكن أن يكون أي أحد في العالم قد صمم رقصاتهم التي يستجيبون فيها لكل ما يشعرون به“.
بعد ما انتهت الأغنية، رجع الراقصين إلى مقاعدهم ونحن نسمع أصوات أنفاسهم من التعب. وهمَّ الجميع بالجلوس، ورجع القسيس يلقي كلمة موعظة تطرّق فيها لزواج المثليين ووصفه أنه ذنب منافٍ للطبيعة وأن عليهم التوبة.
بعد مواعظ طويلة كنت ألاحظ تأثيرها على البعض، بدأ الناس يحاولوا بكل بشاشاة أن يوقفوا القسيس عن الحديث ليعودا للرقص. كان الجميع يظن في كل مرة أنها الجملة الأخيرة التي سينطقها، إلا أنه حماسه يجبره أن يكمل.
بعد ما تكررت المحاولات، تنحى أخيرًا وعادت الفرقة للعزف، وقفز بعضهم من كراسيهم وكأنهم عرفوا الأغنية من بداية العزف ودخلوا حالة تأهب. بعد عدة ثواني زادت الموسيقا حماسًا وامتلأ المكان في المقدمة بالراقصين. هذه المرة كان الرقص مختلف، يصفقون بأيديهم ويحركون أجسادهم بقوة وهم يدورون في حلقة متقابلين الوجوه ويطلقون صرخات التشجيع.
دعاني بعضهم للانضمام وكأنهم يُضيّفوني لتناول الطعام، ولم أستطع الرفض. ”طبيت الملعب“ وبعد دقائق معدودة حركت فيها كل عضلة من جسدي، انتهت الأغنية وبدأنا نرجع للكراسي، وأذكر أن يدي كانت تألمني من قوة التصفيق الذي حاولت فيه أن أواكبهم.
استمرت الجلسة تتبدل بين المواعظ والرقص لساعات، إلا أننا خرجنا قبل أن تنتهي وقد انتابني صداع من قوة الصوت، وكانت الأغاني تتردد في عقلي طوال تلك الليلة.