ربما للألم وجهة نظر أخرى

العنود العتيبي



ربما للألم وجهة نظر أخرى؟

 

"الألم لا يسحق الجسد، بل يسحق الفرد، فهو يكسر سيولة الحياة اليومية ويشوّه العلاقة مع الغير. إنه عذاب. الألم لا يقبل البرهنة بل يُعاش كتجربة، وقوة تأثيره خاصة بالشخص الذي يحس به."


يعيشُ الإنسان حياته وهو يخاف من الألم والموت، لذلك نراه يكدح في سبيل تطهيرهما من الوجود، مع إدراكه الصريح في قرار نفسه أنهما شرطية لا مناص منها مقابل عيشه في الحياة، أي أنهما يشكلان "كوجيتو" أنا متألم إذًا أنا موجود.
 


ما عُمر الألم؟

إذا ما أمعنا النظر قليلًا، سنرى أن طريقة ولادة الإنسان لوحدها ممزوجة بالألم، إن لم تكن لبنة ولادته، حيث يُثبت الوليد وجوده بدموعه الباكية، وإن لم يكن يعي معنى دموعه أو هدفها، لكنها تحدث بفطرته. ولعل ذلك دليل على أن علاقتنا مع الألم تنطلق من وجودنا وتنقطع معه. يُعلمنا الألم أننا لن نستطيع الحياة بدونه، حتى عندما نريد الحصول على شيء سهل نسبيًا، سنجد أرواحنا مُصرة على تكبد وعثاء طريق السفر نحو الغاية، تشعر بثقل الطريق والغربة عن أي صديق، يجثو القلق في قلب أرواحنا إلى حين وصولنا، نفزع من تعقيد الخطوط التي ننسجها في أذهاننا، حتى أن أجسادنا تتفاعل مع مكونات ألمنا، تتعرق وترتجف وتدوخ، وما إن نصل إلى المراد إلا وتشتعل فينا رغبة المشي في طريق مراد أخرى، أي رحلة ألم أخرى.ـ


لماذا الألم؟

هل يمكننا سؤال الألم عن هدفه من الوجود؟ إلى حد الآن لا نستطيع ذلك. مع هذا ربما يحاول الألم أن يدمج المسافة بيننا وبين ذواتنا، لنتوحد مع أنفسنا، لنُحدق في أجسادنا، لنتفكر في عمل خلايانا وسعيها الحثيث لوصولنا إلى التوازن، لنستطيع في آخر المطاف أن نختلي مع أنفسنا، لنبقى ساكنين حتى لمرة واحدة، لنوقف حلبة الجري في سباقاتنا مع الحياة، لنُغمض أعيننا لدقيقة واحدة، لنرى هذا العالم الفسيح، لتُشرق في أرواحنا الحياة مجددًا، بدون فوتوشوب يشوّه الصورة الحقيقية.ـ
لهذا يمكننا القول أن لوجود الألم معنى، لديه هدف يريد تحقيقه من خلالنا، وسيتحقق ربما إذا تحققت أهدافنا. أو على الأقل ليس وجوده عبث، إن الألم يسعى أيضًا إلى تحقيق هدفه من الاحتكاك بنا، ربما لا يسعنا معرفته أو قد نعرفه بصورة مُعتمة، ولكن يجب علينا أن نتذكر أن عدم معرفتنا لمعنى وجود الألم لا يعني بالضرورة عدم وجوده.ـ


قامة الألم مقابل ضآلة الإنسان على مواجهته

لشعور الألم تجربة لا يمكن قياسها بتجربة أخرى، حتى أن تجارب الألم ذاتها ليست متشابهة، قد نرى شخصين عبروا مع ألم الفقد، ولكنهما مختلفان تمامًا في شعورهما. لا شيء غير الألم يستطيع أن يُشعرنا بثورة المشاعر تلك، أن تكون ساخطًا وراضيًا في آن، أن تبتهج مع الآخرين بينما روحك تحترق، وحده الألم من يخلق في الإنسان ممثلًا لامعًا على خشبة الحياة، ولن نغفل عن كون هذا التمثيل يحمل عواقبه. للألم جبروت يهزم الإنسان بضراوة، مهما حاولنا المكابرة، هو الذي يُثبت لنا مرة بعد مرة، مدى هشاشة الإنسان التي يتوارى جسده الهزيل خلفها، وبمحاولاتٍ غير مكتملة يركض نحو التعتيم على أصالته، ذلك الإنسان هو نفسه الذي يلهث الآن ليصل إلى مرحلة الخلود، والثبات على مرحلة الصبا، لا يزال يحاول نكران رخاوته البشرية.


الألم يُعري الروح والروح تستجيب

ربما لم يعرف الإنسان شيئًا مثل ما عرف هروبه من المواجهة، إنه يعلم بمناوراته التي يخوضها مع روحه، تلك الروح التي تناقضه على الدوام، تختار أن تموت شُجاعة وتحيا مُواجهة، روحنا تكره الإدبار، ولعل رغبتنا الشديدة في هروبنا من شعور الألم تعود إلى أننا نسينا كيف تعمل أرواحنا، نحسبُ أن الروح ستتبع أوامرنا مثلما يتبعها الجسد، ولهذا نجد أن جميع الآلام التي تطرحنا أو توقفنا عن السيطرة، تقودنا إلى معرفة معنى وجودنا في الحياة، لأنها تكشف غشاوة التصنع من على أعيننا، لأننا سنواجه ذواتنا.

بقاء الألم وفناء الإنسان

مع تسليمنا بثبات الألم ما دمنا نحيا، لن يسعنا سوى تربية أنفسنا على قبول الألم في أي لحظة، وأيضًا سنتألم خلال رحلة القبول، ربما هذه طبيعة الحياة، أن تملك وجهان من كل شيء: "الحياة والموت أو الألم والأمل" وربما هذه طبيعة الإنسان، أنه يملك من التناقض ما يكفيه لاحتواء النقيضين بذات المقدار

Join