رحلة طبيبة تحت الإنشاء
لم أقبل فحاولت وحاولت وعند قرابة استسلامي قُبلت..
في كل طريق ظننت أنه سهل تعثرت فوقعت، وفي كل طريق ظننت أنه صعب توقفت فاستسلمت، تلك هي طبيعتنا، وما يجعلنا ننجح هو توفيق رب العالمين ثم مجهوداتنا و محاولاتنا.
أيها القارئ، لعلك سمعت بنظام المناطق وعدم قبول تلك المزعجة في كل منصات التواصل، إزعاج استمرارها للبعض. تحدثت عن حقيقة غابت عن بال الكثير ومن كان يعلم ظَل في حالة المتفاجئ في كل مرة سمع عن حقيقة ذلك النظام العجيب، الذي بسببه تحطمت أحلام الكثير لشعورهم بالسوء تجاه أنفسهم، فاجتهدوا وسعوا وعملوا، وما النهاية إلا كلمة واحدة أمام مجهودات الطلاب العظيمة: كلمة "رفض" دون سبب منطقي! وفي السلبيات الكثير مما يذكر حول نظام المناطق الجامعي.
وبعد معاناة القبول الجامعية، أُقبل فأكمل في مهزلة السنة التحضيرية وأعجوبتها، لأعود من نقطة البداية تحت ضغط وتوتر عجيب لاختيار التخصص وكأنما خطتي الواضحة بعثرت ملامحها فما عدت أعلم ما أريد فأعاود القراءة في التخصصات مرة تلو الأخرى، وأغير في ترتيب الرغبات آلاف المرات. ضياع وتشتت رغم زعم وضوح الطريق.
في الاستخارة دليل للقلب التائه، فكان الله ملجئي الوحيد بعد تخبطات الدنيا مراراً والضياع دهراً. لأقرر بثبات أن الطب ما أريد.. لمَ زعمت كل ذلك الإصرار؟ لم يكن فقط بسبب ذلك الشعور المريح الذي ينتابنا بعد اطمئناننا بقربنا من الله وإنما لأسباب لم استطع تبينها إلا بالطرق الصعبة. كيف؟ أتفهم لهفتك لمعرفة الأسباب والنتائج، ولكن لتتعلم درساً من الآن فصاعداً: التركيز في النتيجة دون الاستمتاع بالرحلة هو خسارة لنعمة قيمة تلك الرحلة؛ لذلك استمتع بقراءة القصة مع كوب من شرابك المفضل، فالحديث في الذكريات بحر من المشاعر.
انتهيت من ترتيب الرغبات مع يقيني التام بإذن رب العالمين بالقبول لما وضعته من جهد ومثابرة وطاقة لا مثيل لها في الدراسة؛ ليتم رفضي كما حدث معي كل مرة من بداية مشوار حياتي الجامعية؛ فما كان مني غير دموع عدم الرضا، ولكنّ الحمد باقٍ خلال وطأة دموع التعب والاجتهاد والأمل ورفع سقف التوقعات، دموع الصبر والخذلان، تعاريف كثيرة لذلك الحزن الذي يملأنا بعد خيبة أمل.
لكن خلال مسيرتي تعلمت أن المحاولة لن تكون يوماً بلا نتيجة. وأنها لم تضِق إلا لتفرج، وإن كانت النتيجة غير مرضية فهي بالتأكيد طريق لفرصة جديدة. وأن في الفشل نعمة التعلم، فإن لم يسقط الإنسان لن يدرك مقدار الألم، ومن يعرف الألم ليس مثل مجربه؛ فالتجربة تُبقي أثراً واضحاً لا يُنسى.
رفضت مراراً واعتدت لبس أقنعة اللامبالاة أمام كل الصعاب، وكم هو مؤلم أن تتظاهر بقوتك وقت ضعفك، أن تخفي دموع ألمك بابتسامة بلهاء لتسعد غيرك وتمنع تعكر صفوة فرحة الغير بهمومك، لبس الأقنعة أنانية لنفسك ولمشاعرك، لكن لا بد منه في واقع حياتنا.
أسقط فأنهض، هكذا تسير حياة كل إنسان طبيعي يحاول جاهداً المضي في حياته باتزان، فلا ألم دون وقوع ولا فرحة دون وقوف. وقعت حزناً وقت الرفض، فمن حقي الحزن أمام كل مجهود بذلته فكانت نتيجته الرفض. لكن عندما تسقط وتشتكي ألماً وتبكي لن يكون غير لحظة مؤقتة ثم تقف ثانية, كما فعلت في اليوم التالي بحثاً عن الحلول الممكن فعلها للوصول إلى ذلك الطريق، طريق حياة راغبة بها قبل أن يكون حلماً أتمناه بسبب كلمة شغف.
بحثت وحاولت ووجدت كل الطرق مرهقة أمام فرص أخرى أستطيع بكل سهولة الحصول عليها، كإكمال رغبتي الثانية التي لا أكرهها وأجد نفسي فيها أيضاً: فرصة ابتعاث في جامعة مانشستر في تخصص لي رغبة به وله مستقبل مريح بدخل ممتاز.
فكرت بعد بحث طويل وفقدان أمل: لمَ العناء والعناد في طريق يظهر أنه ليس لي؟ لمَ أتكبد كل تلك المشقة؟ قررت قبول فرصتي الثانية والمضي في إجراءات قبولي في الابتعاث والتخطيط لمستقبل جديد ورغبة جديدة مع محاولاتي الضعيفة على أمل القبول في ذلك الحلم خلال طريقة سمعت بها وهي " إعادة التسكين" فأرسل رسالة للجامعة، أنساها و أمضي قدماً... فلا فائدة من الوقوف أمام الطرق المسدودة.
رفضت للمرة الثانية بعد انتظار لمدة طويلة، لأرسل رسالة أخرى بطلب إعادة التسكين معاندة لقرارهم بالرفض غير مكترثة بالرفض ثالثاً ولكن لا خسارة في إرسال الرسائل والمحاولة. ولم أكن في حقيقة الأمر مهتمة لقبولهم فقد بنيت آنذاك أحلام جديدة ولكن ما زالت هناك رغبة بالعناد لتحقيق حلم سابق سعيت لأجله الكثير.
في تاريخ 13/08/2020، تبدل شغفي ورغبتي في الطب كله، أجهز لمطالب الابتعاث متناسية كل أمر يخص تلك الحياة التي تمنيتها والحلم الذي بنيته، تنازلت عنه وكأنه شيء لم يكن. لأستيقظ على صوت رنين هاتفي مجيبة لصوت يقول " أستاذة سارة؟ تم قبولك في كلية الطب والجراحة"، صدمت بل صعقت ما بال حلم تناسيته يعود الآن؟ مضيت فلمَ الآن؟ أكان ذلك الطريق طريقي؟ أم أنه مقلب عابر سخيف من أحد الأصدقاء؟
يغلق المتصل لتصلني رسالة " تم تغيير التخصص الخاص بك إلى تخصص طب وجراحة "، شعرت بالضياع وليس الفرحة وقع صدمة القبول، سجدت شكراً و هاتفت أمي مبشرة إياها كونها آست معي مشاعر كل رفض تلقيته، بكت لتعطي السماعة لوالدي رحمة الله عليه... مبشرة إياه بقبولي فوجدت صوت الفخر والسعادة في صوته لتخرجني من واقع صدمتي إلى مشاعر السعادة والفرح مستذكرة حلماً سعيت وبذلت لأجله الكثير حتى حاولت تناسيه رغبة مني في الحفاظ على روحي من التحطم أمام حلم لم يحقق وطريق سد في وجهي العديد من المرات.
أعلنت قبولي للجميع، أجيب عن أطنان الأسئلة التي تجاهلتها من شهور متحمسة كل الحماس لذلك الحلم العظيم، مباركات من كل مكان ورسائل إيجابية جميلة تحيي القلوب فرحاً وسعادة، أجهز مكتبي وأرتب كل زاوية في غرفتي استعداداً لأول يوم دراسي لأول سنة دراسية في كلية الطب! وكأني طفلة في المرحلة الابتدائية. اشتريت الزي الطبي ونمت فيه من فرط حماسي؛ ولأصارحكم قولاً فهو مريح جداً وبديل جيد للبجامة.
أجريت مقابلة الكلية البسيطة رغم انتفاضي لها توتراً، تعرفت على زميلات دفعتي برسائل تطبيق الواتس اب ولعل فرصة التعرف عليهم تقلصت بسبب ظروف فيروس كورونا، وهم من ستطول أيامي معهم في سنوات دراستي الطويلة بعيدة كل البعد عن عائلتي التي تقطن في مدينة ينبع. حجر منزلي وبٌعد ودراسة مختلفة عن طريق الأونلاين، لم تكن البداية ممتعة كما تصورت للأسف. لكن حاولت أن أهون على نفسي بالصبر قائلة أن غداً يوماً أفضل والأمر ليس بذلك السوء ولكن لا أعلم كيف فعّلت وضعية الاجازة من بداية أيام دراستي، وكم المعلومات العجيب يدعو للصدمة والنوم أكثر. أهملت نظام "الدراسة أول بأول" رغم استعدادي وتسلحي بنصائح من كان أكبر مني سناً وخبرةً وعلماً. فالنصائح مهمة لكن التجربة الواقعية في تطبيق تلك النصائح دوماً مختلفة. لأن واقع تجربتك يختلف من شخص إلى شخص، استمع الى النصائح لكن لا تجبر نفسك على تطبيقها، كن مرناً.
كانت أيامي رتيبة بين محاضرات ونوم ووحدة دون أهلي مغتربة عنهم، أفتقد أيامي معهم، مشتاقة لهم بين جدران غرفة السكن الكئيبة وتحت واقعة رتابة يومي اتصلت مشتاقة لأهلي لأطمئن على أخبارهم، لتخبرني أمي بخبر مربك هز كل أماني وكياني عن توقف قلب والدي ومحاولة أخي لإسعافه وإنعاش قلبه وتأخر الإسعاف عنه... نقل للمستشفى وتحت العناية المركزة تكتب له حياة جديدة بأمر وفضل من الله وكل ذلك حدث دون علمي أو التكلف بإخباري... غضبت! ولكن تفهمت قلق أمي على دراستي من التأثر...
وسط زِحام محاضراتي وخبر مرض والدي، أخبر أمي بقرار رغبتي بالعودة لرؤية والدي والاطمئنان عليه لتنهرني قائلة: "ابوك خذي كلميه وتأكدي هو بخير إنتي ركزي على دراستك!! هو دا اللي يهمه، يهمنا يا سارة دراستك!" فأخضع لطلبهما بهدوء دون جدال.. بغليل قلبي المتلهف شوقاً واطمئناناً لرؤية والدي فكل ما تمنيته آنذاك قبلة على جبينه ابتغي فيها رضاه.. و ما هو إلا يوم واحد حتى أتلقى اتصالا آخر من أمي عن نقل والدي للمدينة لإجراء عملية قلب مفتوح لتعبه وتدهور صحته. أقوم مسرعة بالحجز لأقرب رحلة ممكنة إلى المدينة ولم أجد للأسف غير صباح اليوم التالي.
وعجب الدنيا في الصدف، محاضرة صباح اليوم التالي عن نظام جهاز القلب والأوعية الدموية، أحضر المحاضرة بعقل لا واعي ولا مدرك بين اتصالات للبحث عن والدي المفقود.. قصة ليوم آخر. وبعد بحث طويل لقرابة السبع ساعات وجدت والدي في ثلاجة الأموات، متحملة نقل خبر وفاته لعائلتي كما يفعل الطبيب في نقل أخبار الوفاة. لم ينتهِ الأمر بالتكلف بإخبار عائلتي بخبر الوفاة، بل سبقت الجميع إلى مشرحة كلية الطب لرؤية الجثث في رؤية جثة والدي في مغسلة الأموات، لأقبل قبلة الجبين التي تمنيتها على بشرة باردة متجمدة. رحمه الله..
تلقيت دروساً مؤلمة ومرهقة أكثر من صعوبة محاضرات كلية الطب، لم يكن اللحاق بالدروس سهلاً ولم تكن قدرة الاستيعاب لكم المعلومات أسهل... صعب الطريق، تعثرت مراراً في الشعور أن الطريق فوق طاقتي. أحاول اللحاق والتعلم واستيعاب الكم الهائل لكن صحتي النفسية في تدهور ملحوظ مع درجاتي، وإن لم أتخذ قراراً صائباً ستكون العواقب وخيمة في الرسوب في معظم المواد الدراسية؛ فقررت الاستسلام وعدم الإكمال.
خيار الاستسلام والتوقف عن الدراسة للشفاء كان خياراً متاحاً ومرغباً به لكن جزءاً عنيداً مني تحداني قائلا: أكلما وقعت مصيبة توقفتِ؟ أكلما وقعت مصيبة ضعفتِ؟ لو كنتِ طبيبة في المستقبل، كيف ستكملين وقت تعثرك بمصيبة أكبر؟ أكان الاستسلام رغبة والدك؟ لطالما كان أبي يقول أن العلم شفاء للأسقام ومنفعة للروح وعلاج للقلب. فلمَ؟.. شعرت بنشوة التحدي قائمة فأكملت. تعلمت درساً آنذاك وهو لليوم قائم، أن التوقف أحياناً لا يكون اختياراً، إن كان لنا سبب حقيقي لنكمل ونَصِل فليس اختياراً أن نقف ونفوت المحطة التالية من رحلة الطريق.
استغلال الألم وتعلم الدروس من تلك الابتلاءات العظيمة التي نخوضها صابرين محتسبين الأجر، هي السبب الأول في تكوّن الإنسان، أي ولادته من جديد بفكر جديد ملهم له بتلقينه الدروس اللازمة للمضي قدماً في حياته، تعلمت كيف أستغل عواطفي وآلامي في العطاء. العطاء في دراستي، حلمي وشغفي، تعلمت كيف أجعل جروحي قصة إلهام لي ولغيري.
ولأكمل هذا الطريق تحت كمية الضغط النفسي، تذكرت سبب بناء الحلم واختيار الطريق الذي أخبرني الجميع بصعوبته. تذكرت تشجيع صديقاتي ودعمهم لي، تذكرت أحاديث والدي بعظمة طريق الأطباء رغم عثراته وكم من أجر يناله الصابرون في العلم. ستأتي الكثير من الأيام خلال طريق مسارك الأكاديمي، تنهاك عن إكمال مسيرتك، تخبرك بكم الفشل الذي أنت عليه وأن الطريق الساعي له لا تستحقه وليس مكانك إطلاقاً، لكن إياك والاستسلام، إياك والتوقف أمام أي عثرة، لو كان لديك ذلك الحلم والشغف مجتمعين فمهما كانت العثرة مؤلمة لا تستسلم! لا تجعل خيار التوقف متاحًا، وأكمل!
أكملت أول ترم في كلية الطب دون رسوب في أي مقرر، بدرجات مرضية ولله الحمد رغم قول البعض أن الرسوب طبيعي في الكلية ولا بأس به، بمجرد أن تصدق تلك العبارة وترضى لنفسك خيار الرسوب ستقع، لكن إن حصل رغماً عنك فلا بأس، ليست نهاية الدنيا، الرسوب وارد وما يهم في نهاية الأمر هو كونك طبيباً معالجاً للناس مستقبلاً ومغيراً في حياتهم للأفضل، فالطبيب لا يعالج المرض فحسب وإنما يحاول التحسين من حياة الإنسان بعد إذن الله، فالموت وارد والمرض قد لا يشفى ولكن ما يهم أكثر هو تحسين حياتهم.
لكل طالب وطالبة في هذا الطريق العظيم، تذكروا واجعلوا الصورة في أذهانكم، عليكم بفكرة كونكم أطباء مغيرين في حياة الناس للأفضل قبل حصولكم على مجرد لقب قبل اسمكم، وذلك يكون بمساعدة زملائك وزميلاتك في الكلية ولكل من طلب المساعدة، لا تبخلوا على أحد بمعلومة، فالطبيب مستقبلاً لا يعمل بمفرده أبداً بل بالعمل الجماعي، فنجاح غيرك من نجاحك، وإن لم تعتد على النجاح المشترك فعود نفسك بتذكر جزء مهم في القسم الطبي "وأكون أخًا لكل زميل في المهنة الطبية في نطاق البر والتقوى"؛ فلا تكن أنانيا فتحرم من نعمة الله عليك، واجعل لك إخواناً خلال هذا الطريق تقتدي بهم و تستشيرهم وتشارك معهم أيام حزنك وتعبك؛ فبداية الأمر متعبة، لكن صدقني ما إن تجتاز الترم الأول في الكلية حتى تجد نفسك أكثر تمكناً.
واستشعروا القسم الطبي بنقشه على قلوبكم و أذهانكم تعظيما لمقدار الأمانة:
بسم الله الرحمن الرحيم. أقسم بالله العظيم أن أراقب الله في مهنتي. وأن أصون حياة الإنسان في كافة أدوارها، في كل الظروف والأحوال، باذلًا وساعيًا في استنقاذها من الموت والمرض والألم والقلق، وأن أحفظ للناس كرامتهم، وأستر عوراتهم، وأكتم سرّهم. وأن أكون على الدوام من وسائل رحمة الله، باذلًا رعايتي الطبية للقريب والبعيد، الصالح والطالح، والصديق والعدو. وأن أثابر على طلب العلم، أسخِّره لنفع الإنسان لا لأذاه. وأن أوقر من علمني، وأعلّم من يصغرني، وأكون أخًا لكل زميل في المهنة الطبية في نطاق البر والتقوى. وأن تكون حياتي مصداق إيماني في سري وعلانيتي، نقيًا مما يشينني أمام الله ورسوله والمؤمنين. والله على ما أقول شهيد.
القسم الطبي
في النهاية، لم أذكر عثراتي وقصة رفضي إلا لأريكم أنْ ليس كل منا يعيش الأمر بسهولة، فلم أتوقع مصيبة في أيامي الرتيبة لتبني كياني وفكري من جديد، لتجعل حلمي مهدداً بالخطر. ولولا تسخير الله لنعمة الناس والصبر لما أكملت الطريق، لتوقفت في أول عثرة؛ لذا أكمل وحارب من أجل حلمك وأهدافك وأنت على يقين بأنك ستحاول بكل ما تقدر عليه أمام كل ما تواجه، اصبر، أكمل، اسعَ دائما لفعل الخير؛ ولن يضيع لك تعب بإذن رب العالمين. أيقن ان الله معك في كل الصعاب، وأن ما من جهد تبذله إلا وله نتيجة تنتظرك.
زميلتكم سارة باحويرث