في فضل الطموحات البسيطة


في رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" يذكر الأديب السوداني الكبير الطيب صالح العبارة التالية:


"نحن بمقاييس العالم الصناعي الأوربي، فلاحون فقراء، ولكنني حين أعانق جدي أحس بالغنى، كأنني نغمة من دقات قلب الكون نفسه. إنه ليس شجرة سنديان شامخة وارفة الفروع في أرض منّت عليها الطبيعة بالماء والخصب، ولكنه كشجيرات السيال في صحاري السودان، سميكة اللحى حادة الأشواك، تقهر الموت لأنها لا تسرف في الحياة".


الطيب صالح

استغرقت وقتاً طويلاً في التفكر والنظر في الجملة الأخيرة: "تقهر الموت لأنها لا تسرف في الحياة". لعله بسبب تناولها لثنائية الموت والحياة بشكل جسور، فهي تجعل الإنسان نداً للموت، أو تعطيه بصيص أمل في القدرة على قهر الموت. حتى وإن كان هذا الأمل مجرد وهم ليس إلا، فالموت واقع لا مفر منه. ولا يوجد تعبير عن حتمية الموت الذي لا يقهر أبلغ من تعبير الشاعر الجاهلي أبو ذؤيب الهذلي في القصيدة التي يرثي فيها خمساً من أبنائه ماتوا في عام واحد بسبب طاعون، والتي يقول في مطلعها:


أَمِنَ المَنونِ وَريبِها تَتَوَجَّعُ          وَالدَهرُ لَيسَ بِمُعتِبٍ مِن يَجزَعُ


ثم يقول يصف حرصه على حماية أبناءه والدفاع عنهم ولكن الموت قهر كل محاولته:


وَلَقَد حَرِصتُ بِأَن أُدافِعَ عَنهُمُ          فَإِذا المَنِيِّةُ أَقبَلَت لا تُدفَعُ

وَإِذا المَنِيَّةُ أَنشَبَت أَظفارَها          أَلفَيتَ كُلَّ تَميمَةٍ لا تَنفَعُ


نعود لعبارة الطيب صالح، فهو يعطينا فيها وصفة مجربة من مظاهر الطبيعة المحيطة بالإنسان للكيفية التي يمكنه بها أن عيش الحياة الطيبة. فالإنسان هو ابن بيئته، ولعله يجد فيها الدليل الهادي للطريقة يمكن له أن يعيش حياته على النحو الصحيح. فشجيرات السيال تكيفت مع بيئتها، وتعايشت مع ظروفها، فنتعلم منها بأن الموت يمكن قهره. وقهر الموت في هذا السياق لا يكون بالسعي المستحيل للتغلب عليه أو تفادي وقوعه، بل يتحقق بأن يزهد المرء في الحياة حتى إذا جاء الموت لم يفرقه عن شيء ثمين، وأن لا يتشبث المرء بهذه الحياة بقدر أكبر من اللازم فكلنا في الحياة لسنا سوا عابري سبيل.


وعدم الإسراف في الحياة قد من ناحية أخرى ضرورة أن يقف الإنسان بالمرصاد لرغابته وشهواته، وأن يحرس نفسه من أهواء نفسه، أو كما تصيغها الخنساء بعبارات بديعة:


سَأَحمِلُ نَفسي عَلى آلَةٍ         فَإِمّا عَلَيها وَإِمّا لَها
فَإِن تَصبِرِ النَفسُ تُلقَ السُرورَ         وَإِن تَجزَعِ النَفسُ أَشقى لَها
نُهينُ النُفوسَ وَهَونُ النُفوسِ         يَومَ الكَريهَةِ أَبقى لَها


وعلى الرغم من قساوة الخنساء في حق نفسها، فإن إهانة النفس قد تكون ضرورة ملحة في زمن سهلت فيه على النفس الحصول على ما تشهيه، وتلبية ما ترغب به.


وعدم الإسراف في الحياة قد يعني من وجه ثالث من ناحية أخرى بأنه الأجدى أن يحجًم الإنسان في بعض الأحيان من طموحاته وأن يقصر من سقف توقعاته فإنك في نهاية الأمر (لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا).


ولعل هذا النوع من الدعوات لتناول الحياة باقتصاد ووزهد وواقعية يقف في وجه الدعوات الرائجة لأن يطلق الإنسان العملاق الذي في داخله، ويجري وراء الطموحات الكبيرة والأحلام العظيمة. لذلك كانت إشارة الطيب صالح ذات معنى في مقدمة العبارة عنما ذكر الجملة التالية: (نحن بمقاييس العالم الصناعي الأوربي فلاحون فقراء)، فالعالم الصناعي الأوربي، هذا العالم الحديث الذي يبني تصوراتنا نحو الحياة اليوم، هو في حالة حركة دؤوبة وجري وسعي مستمر، حتى أصبح الجري بحد ذاته غاية، والسعي المستمر هو المقصد، والحركة هي الهدف. ولكن هذا لا ينفي حاجة الإنسان إلى السعي والعمل ولكنه يجب أن يكون سعيا مقصود لغاية تسمو على الكسب المجرد وإشباع الرغبات، فلعل في ذلك سبيل لأن نعيش حياة أكثر رضا وطمأنينة.

 

Join