الانتماء الاستهلاكي: قبائل العصر الحديث
كيف تتشكل القبائل في عالمنا المعاصر
طرحت عالمة الأنثربلوجيا الراحلة ماري دوقلاس نظرية في علم الاجتماع أخذت حيزاً كبيراً من اهتمام المختصين. حيث افترضت دوقلاس، من خلال دراستها لسلوك القبائل البدائية في أفريقيا، بأن الأفراد في المجتمع يميلون في الغالب إلى محاولة الحفاظ على النظام الاجتماعي السائد أو ما تسميه دوقلاس ب"التصور العام للحياة"،وهو تصور لا يتبناه الفرد بشكل واعٍ ومقصود، إنما يتشربه من المجتمع بشكل تلقائي، فيصبح الأساس الثقافي الذي يبني الفرد من خلاله تصوراته للحياة ونظرته للأشياء وتتشكل عبره سلوكيات الفرد بشكل عام.
قسمت دوقلاس هذه التصورات إلى ٤ أقسام بناء على معيارين: الأول هو مقدار القيود الاجتماعية التي تفرضها المجموعة على أفرادها، والثاني مقدار الترابط والتجانس بين أفراد المجموعة:
يعتبر المظهر الخارجي أحد الأدوات المهمة التي يوظفها الفرد في المجتمع لتعزيز انتماءه للتصور الذي يفترض أنه ينتمي إليه. وتاريخيًا كان التمايز والاختلاف واضحاً بين المجتمعات والثقافات من ناحية المظهر الخارجي وطريقة اللبس والتزيّن وغيرها، فكل مجتمع يملك منظومة أزيائه وعاداته الشكلية الخاصة به النابعة من تقاليده وبيئته الخاصة. أما في العصر الحالي فقد بدأت الاختلافات الظاهرية بين المجتمعات في التلاشي بعد انفتاح الثقافات على بعضها البعض، وسهولة التواصل بين الأفراد من ثقافات مختلفة. وفي نفس الوقت فرضت العولمة قوة اقتصادية تقدم لنا منتجاتها التجارية النابعة من ثقافتها (الثقافة الغربية). هذه العولمة التجارية أزالت الحاجز ما بين المجتمعات من ناحية المظهر وممارسات الحياة اليومية، فالشكل التقليدي للفرد الياباني أو الروسي أو النيجيري أو السعودي أو الفرنسي بدأ في التلاشي لصالح مظهر حديث متشابه إلى حد كبير.
إن الرأسمالية المعاصرة مصحوبة بالعولمة التي مكنت الشركات الاستهلاكية الضخمة من تجاوز الحدود الجغرافية والثقافية للمجتمعات، غيرت من الطريقة التي يتفاعل بها الإنسان مع مجتمعه والطريقة التي يعبر بها الفرد عن انتماءاته الاجتماعية. فالفرد في العالم الاستهلاكي يعبر عن انتماءه من خلال سلوكه الاستهلاكي والبراندات التي يربط هويته بها. وهنا تأتي الطريقة التي تشحن بها الشركات البراند بالدلالات التي تجعله رمزاً معبراً عن الانتماء الاجتماعي. فيعبر الفرد اليوم عن انتمائه لفئة اجتماعية أو لأخرى عبر نوع سيارته أو جواله أو ماركة ملابسه، ويعلن الفرد رفضه للانتماء من خلاله خياراته الاستهلاكية كذلك. ويشبع الفرد حاجته للانتماء والارتباط من خلال تشكيل (قبائل استهلاكية) تتشكل حول براند معين أو منتج ما. فالأفراد الذين يقتنون منتجات شركة آبل مثلاً يمثلون قبيلة حصرية، يقتنون منتجات الشركة ويدافعون عن سمعتها، ويتشاركون اهتماماتهم وهمومهم من خلال منصات التواصل التي تجمعهم، ويمدون لبعضهم البعض يد العون والمساعدة، فإن احتجت مثلاً لشاحن جوال ستجد من أفراد القبيلة من يتبرع بشاحنه لك بكل سرور.
وبالعودة لنظرية ماري دوقلاس فإن المظهر الذي يحدد انتماء الفرد الاجتماعي أصبح يعبر عنه اليوم من خلال طريقة استهلاك الفرد. فلقد تحولت المجتمعات التقليدية خلال العقود الأخيرة إلى مجتمعات استهلاكية يتشكل التقسيم الاجتماعي لفئات المجتمع فيها من خلال الانتماءات الاستهلاكية لأفرادها. مدفوعة بمصالح المؤسسات الرأسمالية الحديثة التي تملك من أدوات التأثير الثقافي مالا يخطر على البال، فتتمكن بكل سهولة من تحويل قيمة الفرد ومكانته الاجتماعية إلى مجرد مسألة استهلاكية مرتبطة بنوع المنتج الذي سيقتنيه أو السلعة التي سيمتلكها، أو بعبارة أخرى فإن قيمة الفرد في العالم الرأسمالي المعاصر تتحدد بمقدار استهلاكه. هذا التحول ينتج عنه توسع الثقافة السطحية الهشة التي تتمحور بشكل كامل حول المظهر، ولا تتجاوز المظهر أبداً إلى "الجوهر"، ذلك المكان الذي تقع فيه ذات الإنسان الحقيقية وحيث يجد تفرده الأصيل.