الوابي سابي.. استشعار الجمال في الاضمحلال
في قصيدتها التراجيدية "الخيط المشدود في شجر السدو" تبدأ نازك الملائكة سرد قصة خيبة الأمل التي سيلاقيها العاشق في نهاية المطاف بهذه الأبيات:
في سواد الشارع المظلم والصمت الأصمّ
حيث لا لون سوى لون الدياجي المدلهمّ
حيث يرخي شجر الدفلى أساه
فوق وجه الأرض ظلا
قصة حدّثني صوت بها ثم اضمحلا
وتلاشت في الدّياجي شفتاه
تحتل فكرة "الاضمحلال" معنىً محوري في نص نازك الملائكة السوداوي البديع، فالقصيدة بأكملها تتحدث حول الاضمحلال والذي يصل لأقصى درجاته في صورة الفناء: الفناء المعنوي للحب -أي تلاشيه-، والفناء المادي للمحبوب -أي موته-.
وفي حين تحمل فكرة الفناء والاضمحلال في وعي أغلبنا دلالات سلبية، تأتينا فلسفة من الشرق الأقصى تدعونا للاحتفاء بالاضمحلال وتقديره والنظر للفناء بطريقة مختلفة تجعل منه نقطة بداية بدلا من كونه نقطة انتهاء.
في منتصف القرن الرابع عشر بدأت طقوس تقديم الشاي في اليابان تأخذ حيزاً كبيراً من اهتمام المجتمع والأفراد، حيث انتقلت تلك الطقوس من الصين بكامل تقاليدها التاريخية العريقة حاملة معها المعايير الجمالية الفنية الصينية التي تحتفي بالزخرفة الإبداعية لأواني الخزف المصنعة بإتقان ومثالية عالية. ولكن بعد مرر مائتي عام أحدث شخص يدعى سينو ريكيو ثورة في طقوس شرب الشاي في اليابان حيث طبق عليها المفاهيم الجمالية الروحانية لفلسفة الزِن Zen البوذية والتي تدعو للانسجام مع الطبيعة والتصالح مع حركة الأشياء الطبيعية نحو نهاية محتومة، فالحياة بالنسبة إلى المادة ماهي إلا مسيرة نحو الفناء الذي تتشكل من خلاله المادة من جديد بشكل آخر أو بهيئة مختلفة. وبذلك نشأ مفهوم وابي-سابي Wabi Sabi والذي يشكل أحد العناصر المهمة التي تشكل الفلسفة الجمالية اليابانية إلى وقتنا الحاضر.
يصعب شرح مفهوم وابي-سابي بشكل مباشر، فهو فكرة فلسفية روحانية تحدد طريقة الرؤية الجمالية للأشياء وكيفية التعايش معها، ومستمد بشكل أساس من فلسفة الزن Zen المطعمة بعناصر من الديانة الداوية Daoism.
تنظر فلسفة الزن للجمال على أنه عنصر لا يمكن شرحه أو تفسيره فهو مطوي في ذات الشيء تماماً كالروح التي تحتويها الجسد ولا يمكن تفسيرها أو الإحاطة بها، فالجمال في فلسفة الزِن لا يتمثل في معايير معينة يجب استيفائها ليكون الشيء جميلاً، على العكس تماماً من التصور الصيني والغربي الكلاسيكي للجمال الذي يتمثل في السعي لبلوغ الكمال والمثالية. وبما أن الأشياء متغيرة في طبيعتها والحياة تسير في اتجاه واحد نحو الفناء، وبما أن فلسفة الزن تركز على التعايش مع الحالة الطبيعية للشيء وتعتبر أن الشيء الطبيعي يحتوي على الجمال في ذاته، بالتالي فإن الجمال هو شيء لا يمكن تخليده عبر لوحة أو تمثال أو صورة أو أي شكل آخر لأن تخليد الشيء ينافي طبيعته المتغيرة، وإذا سعينا إلى تخليد الجمال فإننا لا نكون في حالة تعايش مباشر مع الشيء إنما نتعايش نسخة من الشيء في لحظة زمنية ما وهذا ينافي الطبيعة وحركتها المستمرة نحو الفناء. بالتالي فمهما كانت عناصر الجمال التي نرغب في تخليدها فإنها ستكون مزيفة لأن الجمال في أصله يكون في طبيعة الشيء في ذاته، واستشعار الجمال يكون في التعايش مع الشيء الطبيعي كما هو في حالاته المتغيرة.
قام سينو ريكيو بتبسيط طقوس تقديم الشاي وشربه فقام بصنع أدوات الشاي بطريقة تحتفظ فيها الأدوات على الآثار والمظاهر الطبيعية للمادة الأصلية بقدر الإمكان، والاحتفاء بالتغير الناتج من التقادم وآثار الزمن الظاهرة على الأدوات، والاكتفاء بعناصر الطبيعة من أشجار ونباتات في تزيين أماكن شرب الشاي، وبالتالي أحدث ثورة على التوجه الصيني للجمال الذي يتصف بالفخامة والسعي للمثالية والكمال. وتمثل هذه الثورة ظاهرة مشابها للثورة الفنية الذي انتجتها مدارس الفن الحديث في الغرب مع بداية القرن العشرين، ولكن في الوقت الذي توجهت فيه مدارس الفن الحديث لكسر تقليدية المفاهيم الجمالية من خلال الفن بذاته، بينما تخلص مفهوم وابي-سابي من الأدوات الفنية المصطنعة التي هي في الأساس إعادة لتشكيل الطبيعة وموادها سعيا لتخليدها في قالب جمالي، وآثر العودة للأساس الطبيعي للجمال المتمثل في الطبيعة كما هي من غير التحكم بها أو إعادة تشكيلها، لأن أي إعادة تشكيل هو قتل للحركة الطبيعية للشيء.
ولأن مفهوم وابي-سابي في جوهره هو محاولة للتعايش مع الشيء الطبيعي كما هو فإنه يتضمن رفض للظواهر الاستهلاكية الحديثة والتي تلبي احتياجاتنا من خلال منتجات استهلاكية مصنعة رخيصة التكلفة من جانب ولكنها رخيصة القيمة من جانب آخر، فانخفاض تكلفة المنتجات الاستهلاكية نسبيا يدعو للإكثار من الاستهلاك منها من ناحية وسهولة استبدالها من ناحية أخرى، وكون المنتج صنع في الأساس لغرض التخلص منه فإن القيمة المعنوية للمنتجات الاستهلاكية تكون منخفضة كذلك. ويمكن مشاهدة انعكاسات ذلك على حياتنا اليومية بشكل مباشر، فقديما كانت البيوت تحتوي على عدد أقل من المنتجات ولكنها تحمل قيمته معنوية عالية وتمثل جزء من تاريخ المنزل والعائلة (أدوات الطبخ والأكل مثلا، قطع الأثاث والزينة التراثية) ولكن في وقتنا الحاضر يسهل شراء الأشياء ويسهل استبدالها كذلك مما يفقدها من ارتباطها المعنوي ولا يشكل لها وجود في الذاكرة الإنسانية (وكل ذلك هو يتماشى مع فكرة السيولة العالم الحديث). بالتالي تساعدنا فلسفة وابي-سابي علر التغيير السلوكيات الاستهلاكية السلبية، وذلك خلال من خلال السعي أولاً لشراء الشي الذي نعتقد بأننا سنتعايش معه لفترة زمنية أطول، والسعي لأن يكون منتج مستمد من الطبيعة ويسعى للحفاظ على شكلها الطبيعي بقدر الإمكان (لا مكان للبلاستيك في وابي-سابي)، ولأن المنتجات المتوفرة بهذه المواصفات ستكون أغلى في سعرها فذلك يجعلنا نقتصر في اقتنائنا للأشياء على ما نحتاجه فعلا وبالتالي نوليه قيمة معنوية أعلى تجعلنا لا نجنح للتخلص منه حالما بدأت تظهر فيه الخلل وإنما نسعى للحفاظ عليه قدر الإمكان.
ولا يقتصر تطبيق مفهوم وابي سابي على الأشياء، فهو يتشمل الإنسان نفسه كذلك، فهو يدعونا للاحتفاء بآثار الزمان على مظهرنا من غير السعي لإخفائها بشكل غير طبيعي يجعل الشخص يظهر بمظهر مصطنع، فالتجاعيد لها قيمة تحكي تاريخ إنسان ما، والندبات تحكي قصص يجدر بالمرء أن يحتفي بها من إخفاءها. ومظهر الإنسان بشكل عام لا يختلف عن الأشياء الطبيعية فهو شاهد على السير الحتمي للجسد نحو الفناء، بالتالي فالوابي-سابي هي محاولة لتقبل حتمية فناء الشيء بدلا من السعي الذي الغير ناجح لمقاومته.
ولمفهوم وابي-سابي تطبيقاته الجمالية في حياتنا بشكل عام، فبدلا من اقتناء لوحة فنية لتزيين المنزل تدعو وابي-سابي لتزيين المنزل بعناصر من ذات الطبيعة كالنباتات، وبدلا من البحث عن قطع الأثاث المثالية المصنعة بمعايير منمطة يفضل السعي للحفاظ على الأثاث الخشبي والمعدني بالشكل الطبيعي للمادة بقدر الإمكان بكل ما فيها من مظاهر نقص طبيعي كالتآكل والتشقق والتغير الطبيعي للألوان (لا مكان لإيكيا في مفهوم وابي-سابي). وبدلا من التخلص من رداء عند ظهور عيب فيه يفضل محاولة إصلاحه قدر الإمكان، وبدلا من السعي للتخلص من قطعة حديدية صدأة يفضل معالجتها والحفاظ عليها، ولا يعني كل ذلك إهمال الشيء أو الظهور بمظهر غير مهندم، إنما ما يهم هو تقدير آثار الزمن الظاهرة في الأشياء الطبيعية كجزء أساسي من مصير كل كائن حي.
لذلك فمفهوم وابي-سابي هو دعوة إلى تقدير الحياة وطبيعتها المتغيرة الآيلة إلى الزوال، وهو دعوة للسمو إلى الحيز الروحي للأشياء في زمن تجذبنا فيه المادة لقاع الأشياء وحدودها الدنيا، وللتناغم مع الطبيعة في زمن تفصلنا فيه الصناعة عن جوهر الأشياء في طبيعتها، وللارتباط بالأشياء والتمسك بها في وقت تدعونا فيه رؤوس الأموال إلى استهلاكها والتخلص منها. وهو دعوة لتقبل الفناء بحد ذاته باعتباره مكون أساسي من مكونات الحياة.