كيف يغيرنا العلاج النفسي ؟
الخبرات التصحيحية
التغيير كلمة محملة بالمعاني المتطرفة. لن يكون وقعها على النفس محايداً؛ قد تثير الذعر لدى البعض، وقد تستثير التوق والحماس لدى البعض الآخر.
لأن التغيير مأمول ومؤلم وعصي على التحقيق بالشكل الذي نريده، وهو الطريق الوحيد لنحمي أنفسنا من أن نتجمد داخل هويات وعادات وأنماط خانقة. متى ما تقوضت القدرة على التغيير، وصار الإنسان لا يرى أفقاً يمكن أن يحرره، تتوقف الحياة.
" وحدها الذات التي تستمر في التغيير هي الذات التي يمكنها أن تستمر في الحياة."
فيرجينا وولف
لا يصل إلى العيادة -غالباً- إلا أولئك الذين وجدوا أنفسهم عالقين ومحاصرين في وضع نفسي متأزم، وضيق شديد.
وسواءً كان هذا الضيق النفسي ناتج عن اضطراب نفسي أساسي دال اكلينكياً، أو ناتج عما هو دون ذلك من أزمات الحياة وضغوطاتها التي قد تدفع الشخص نحو منطقة الاضطراب النفسي، فإن التغيير هو الغاية النهائية للعلاج النفسي.
ماهو التغيير الذي يسعى إليه العلاج النفسي؟
هناك فلسفة للتغيير خاصة بكل منهج من مناهج العلاج النفسي، وهناك فلسفة للتغيير خاصة بكل معالج على حدة، وهذا التنوع والغموض الذي يلف عملية التغيير يخلق ارتباكاً كبيراً، يشعر به طالبي العلاج النفسي، والمعالجين النفسيين المبتدئين، ويمتد -بالضرورة- بدرجة أقل ربما، عند أكثر المعالجين خبرة.
سأتبنى هذه المقالة وجهة نظر خاصة عن التغيير مستقاة من المناهج العلاجية التي أوظفها في ممارستي العيادية.
ماهو التغيير؟ هل هو اختفاء الأعراض النفسية المزعجة؟ ماذا لو كنا نحرم الشخص من حقيقة أساسية لوجوده إذا سعينا فقط لتخليصه من أعراضه؟
على الرغم من أن هذه التساؤلات قد تبعدنا عن العلم، وتدفعنا نحو الفلسفة، وتتجاوز -بالتأكيد- الخطاب والواقع العملي جداً في الأنظمة الصحية، إلا أنه لا ينبغي تجاهلها حين نتحدث عن النفس الإنسانية بكل غموضها وتعقيداتها.
يكمن خلف معظم الاضطرابات النفسية حالة داخلية ثابتة وراكدة: جمود المعتقدات الذهنية غير التكيفية، تكرر أنماط العلاقات، تعطل تلقائية العاطفة.
يرى كارل روجرز بأن الخلل النفسي يحدث عندما لا يعترف الشخص بخبراته المحسوسة والمعنوية، أو لا ينجح في ترميزها وتنظيمها داخل بنيته الذاتية. ومع حالة الركود والثبات، تصبح أي خبرة لا تتسق مع تنظيمه الداخلي بمثابة تهديد، وكلما زاد عدد التهديدات، زاد تنظيم الذات صرامةً وجموداً للحفاظ على نفسه.
يمكن القول بأن التغيير يتطلب إيجاد مسار حيوي جديد، وهذا ما يقاومه العقل بطرق مختلفة، لأنه يميل بشدة إلى المألوف، ويحاول إثبات صحة ما يحتويه من معتقدات. أحد النظريات لعالم النفس الاجتماعي ويليام سوان William Swann تعرف بالدافع للتحقق من الذات self-verification strivings، تقترح أنه إذا كان لدى الشخص تصور سلبي عن نفسه فسيكون لديه دافع لتلقي ردود الفعل والسلوكيات المتسقة مع نظرته لنفسه من الآخرين، لأن ذلك يوفر له شعور بالسيطرة والقدرة على التنبؤ والكفاءة في معرفة الذات. وهذا يجعل من الصعب الارتياح والاندماج مع شخص لديه تصور معاكس. [١]
وبالمثل، يمكن أن نرى كيف قد يحافظ الشخص على الصعوبات النفسية المختلفة، إذ يتحدى العقل التغيير بطرق شرسة، ليبقي الشخص في نفس المنطقة المألوفة.
أنا شخص سيء، أعرف بأني سيء، وحولي أشخاص يعتقدون بأني سيء. (اتساق)
أنا ضحية، وأعرف بأني ضحية، وحولي أشخاص يعتقدون بأني ضحية. (اتساق)
يمكن وفقاً لذلك أن أعرّف التغيير المأمول في العلاج النفسي بوصفه السماح بتدفق اللامتوقع.
لوحة للفنان الهولندي Balthasar van der Ast
التحوّل الداخلي Transformation
إن العلاج النفسي، وبشكل أكثر تحديداً، المناهج الإنسانية والسايكوديناميكية تهدف إلى الوصول بالشخص إلى حالة وعي مختلفة عن الحالة التي تمكّن فيها الاضطراب النفسي من التغلغل ابتداءً. إن التعافي recovery في هذه المناهج العلاجية يعني تغيير يمس أعمق ما في الإنسان من معاني: علاقته بذاته، وبالآخرين، وتموضعه في الحياة.
لا يمكن أن نعبر جسراً لننجو من ألم يسكننا! إذا كان الألم في الداخل، فلا يمكن أن نتعافى بنفس الهوية التي تأذينا بها!
لا ينبغي أن نترك شيئاً في الخلف ونمضي كما نحن، ينبغي أن نتحول من الداخل. إن التعافي يتطلب تحوّل داخلي، أن تنتزع شيئاً منك، تغرس شيئاً فيك، توسع هويتك، تمدد ذاتك، تبدل أدوراك، وتغير تموضعك في العالم.
على نحو غريب، قد نتعافى بعد أزمة شديدة، أو خيبة أمل تجبرنا أن ننظر من نحن؟ وأين نحن؟!
قد ننضج بشكل تلقائي على نار تقلباتنا. قد تحوّل الخيبات مساراتنا بشكل إجباري. هناك نص للشاعر الفيلسوف ديفيد وايت في كتابه المواساة Consolations يصف ما يحدث بداخلنا بعد التعرض لخيبات الأمل[2]
تمثّل خيبة الأمل -في كثير من الأحيان- مرحلة أوليّة للتحوّل إلى نمط أكثر تحرراً، للانفتاح على احتمالات أخرى للوجود، لإحساس أقوى بأنفسنا، وبالعالم، وبمكاننا فيه.
بهذا المعنى، التحول عملية أشبه ما تكون بالولادة، لابد أن يصاحبها شيئاً من الحزن والألم، يصف جيرمي وودوك Jeremy Woodcock الحزن بوصفه شعور انتقالي ضروري، يقول: "إن الاستمرار في الحياة بأي شكل من الأشكال يتطلب منا الابتعاد عن المألوف، ومن هنا تأتي الحاجة إلى الحزن. فالحزن المثمر يساعدنا على تحمل حمل الأصوات والمشاعر والصور العابرة للمفقود في داخلنا " [3]
يشابه معنى التحول في أدبيات العلاج النفسي مفهوم الخبرات التصحيحية .
ماهي الخبرات التصحيحية Corrective experiences ؟
كتب مارفن قولدفريد Marvin Goldfried في الثمانينات مقالة فارقة توسّع فيها بطرح فكرته حول العوامل المشتركة بين المناهج النظرية في العلاج النفسي، وكان لمقالته صدى واضح في المجال النفسي حينها، وقد حدد فيها الخبرات التصحيحية بوصفها أحد أهم مبادئ التغيير العلاجي المشتركة بين عدة توجهات نظرية.
في عام 1946، قدم فرانز ألكسندر وتوماس فرينش مفهوم الخبرة العاطفية التصحيحية corrective emotional experience ويشير هذا المفهوم إلى أن قدرة الأشخاص على التفاعل مع المعالج بطريقة مختلفة عن الطريقة التي تفاعلوا بها مع شخصيات مهمة سابقة في حياتهم يمكن أن تنتج في حد ذاتها تغييرًا علاجيًا. [4]
وبعد ذلك توسع المفهوم وتغير إلى ليشمل الخبرات التي تؤدي إلى تصحيح في الإدراك والسلوك، ليس العاطفة فقط. حذفت لاحقاً كلمة "العاطفية" من المسمى، لتصبح الخبرات التصحيحية. وهي تلك الخبرات التي يفهم فيها الشخص أو يختبر عاطفيًا حدثًا أو علاقة بطريقة مختلفة وغير متوقعة.
العلاقة العلاجية: القلب النابض للتغيير
الفكرة الأساسية هي أن العلاج النفسي لا يقدم حلول وطرق محددة، بل يقدم خبرة علاقية جديدة، تنمو فيها القدرة الإبداعية على إعادة صياغة علاقة الإنسان بكل شيء: بالذات، بالآخر، بالجسد، بالزمن!
هناك أدلة وافرة تدعم فعالية العلاج النفسي، في تحقيق نتائج مفيدة، إلا أن العمليات التي تكمن وراء هذه النتائج تظل إلى حد كبير غير محددة. لكن الإجماع على دور العلاقة العلاجية كان جلي تماماً في مختلف المناهج، حتى تلك التي لا تتمحور بشكل أساسي حول العلاقة.
شروط العلاقة العلاجية التي صاغها كارل روجرز(التعاطف، الأصالة، التقدير غير المشروط) تمثل المناخ العام الذي يسهل على الشخص إعادة صياغة علاقته بخبراته الذاتية. وهذه هي الغاية النهائية في العلاج المتمركز حول الشخص، حيث تهدف تدخلاته المرتكزة على الاصغاء العميق إلى إعادة ترميم علاقة الشخص مع خبرته الداخلية، فبدلاً من أن يزدري مشاعره وأفكاره، ويشعر بالعار منها، ينتقل الشخص من الخوف والازدراء والعار من خبرته الداخلية إلى الثقة بها كمصدر قيّم للمعلومات، ومرجعية مهمة يمكنه اللجوء إليها لتوجيه سلوكه.
حين يستجيب الشخص للعلاج يبدأ في إظهار بعض التغييرات المميزة. يُظهر تغييرًا في طريقة معايشته لمشاعره، وينتقل من البعد عما يحدث في جسده، إلى القدرة على معايشة المشاعر والمعاني الشخصية بشكل فوري. يتغير الإنسان في طريقة تفسيره للخبرة، من المفاهيم الجامدة التي يُنظَر إليها باعتبارها حقائق ثابتة، إلى الاعتراف بأنه هو صانع هذه المفاهيم، وأنه من الأفضل أن يجعلها عرضة للفحص. يتغير الإنسان في طريقة تعامله مع مشاكله، من النظر إليها باعتبارها خارجة تمامًا عن مساهمته، إلى قبول دوره الخاصة في مشاكله ودرجة مسؤوليته عنها. يتغير الإنسان في طريقة تعامله مع الآخرين، من تجنب أي علاقات وثيقة، إلى العيش بشكل منفتح وحر في مثل هذه العلاقات"
كارل روجرز
ولكي يتسنى إحداث تغيير عميق، يتعين على المعالجين والمرضى أن يكونوا منفتحين على كل جديد يحدث داخلهما أو بينهما، وهو المجال الذي يقع بطبيعته تحت سيطرة النصف الأيمن من الدماغ. ففي حين يستطيع النصف الأيسر من الدماغ مساعدة الناس على تحليل المشاكل، واتخاذ القرارات، أو تقديم تنبؤات واعية، فإن النصف الأيمن فقط يحمل القدرة الإبداعية على ظهور شيء جديد تماما، عفوي، أو غير متوقع. وهنا تكمن أهمية الإبداع بين الأشخاص.
صاغ المحلل النفسي Philip Bromberg فيليب برومبرج، مفهوم "المفاجآت الآمنة" والذي يمكن من خلاله للثنائي المعالج/المريض أن يكسر الأنماط القديمة، ليعثر على شيء جديد، إنها ما يحدث نتيجة التعايش في العلاقة التحليلية بين صفتين أساسيتين: الأمان والمخاطرة. من خلال خلق مساحة ثنائية تشمل ذاتية المريض والمعالج، ولكنها ليست ملكية حصرية لأي منهما، تصبح العلاقة بين المريض والمحلل بيئة علاجية من خلال كونها "آمنة ولكن ليست آمنة تماماً " يصبح التعايش بين الأمان والمخاطرة العنصر الأساسي للعمل العلاجي، الذي يجعل من إعادة إحياء الماضي جزءاً من عملية نمو، وليست تكراراً أعمى للماضي. [5]
إن عملية التغيير في العلاج النفسي تهدف إلى إعادة بناء العالم الداخلي للشخص بشكل إبداعي، من خلال التعبير الحر عن المشاعر، وترميز الخبرات الداخلية المبهمة، وإسناد معاني جديدة للخبرات قديمة، واكتساب مهارات وسلوكيات جديدة. وهذه العملية تتطلب درجة عالية من التحالف، والانخراط العاطفي الذي قد يكون ثقيلا في كثير من الأحيان، لذلك، لا يمكن تلقين أحد كيف يتغير، ولا يمكن تسريع عملية التغيير، كل شخص سيتغير في وقته المناسب، ووفقاً لإيقاعه الخاص.
من أكثر المخلوقات تعبيراً عن جوهر التغيير هي الفراشة، فهي تشق طريقها بصبر وروية من شرنقة دون أي معالم جمالية، إلى فراشة في منتهى البهاء والروعة.
وكما أن"مساعدة الفراشة على الخروج من الشرنقة، يقتلها"
قد نسلب من أحدهم أهم محطة تحول في حياته إذا بالغنا في مساعدته.
المصادر:
Swann Jr, W. B., & Read, S. J. (1981). Self-verification processes: How we sustain
our self-conceptions. Journal of Experimental Social Psychology, 17(4), 351-372.
David Whyte - Consolations_ the Solace, Nourishment and Underlying Meaning of Everyday Words (2015, Many Rivers Press) - Libgen.lc
Wright, S. (Ed.). (2021). The change process in psychotherapy during troubling times. Routledge.
Castonguay, L. G., & Hill, C. E. (2012). Transformation in psychotherapy: Corrective experiences across cognitive behavioral, humanistic, and psychodynamic approaches. American Psychological Association.
Bromberg, P. M. (2009). Truth, human relatedness, and the analytic process: An interpersonal/relational perspective. The International Journal of Psychoanalysis, 90(2), 347-361.