عن عار ألّا تكون محبوباً
"العار هو العاطفة التي تأكل الروح
كارل يونغ
لم يخطر لي أن يكون هناك علاقة بين الحب والعار، حتى بدأت أفكر في الصعوبة التي يواجهها البعض في تلقي الحب والتقدير، ربما قد مر على أسماعكم أو خواطركم شيئاً من هذ الكلمات
"أعرف أن أمي تحبني كثيراً، لكن هناك شيء ما بداخلي لا يصدق ذلك، ولا يعترف بكل ما تقدمه لي كبرهان على وجوده!"
"الجميع يقول بأني جميلة، لكن، عندما أنظر إلى المرآة لا أرى ذلك"
" درجاتي مرتفعه وتقديري ممتاز، لكن لا أشعر أني ذكي بما فيه الكفاية"
لماذا لا ينفذ الحب إلى القلوب؟ لماذا يرتد بقوة، وكأنما لا حاجة إليه، بينما هناك توقٌ داخليٌ لا نهائي له؟ لماذا يوجد لدى أحدنا ذلك الحاجز الذي يعيق وصول الحب والتقدير إليه، قد يعيش أحدهم محاطاً بما يكفي من الدفء، لكن داخله متجمد! قد يُعمى الإنسان عن رؤية أي تصريح أو تلميح يشير إلى أنه شخص جيد ويستحق التقدير!
أثناء بحثي في الموضوع وقعت عيني على مقالة ملفتة للمحللة النفسية جودي ديفيز Jody Davies [1] كانت تتحدث عن العار بوصفه أحد الحواجز النفسية التي تحول دون تلقي الحب والرعاية والتقدير من ناحية. ومن ناحية أخرى، فإن وجوده يميت الرغبة في الحياة، ويقوّي الميل إلى التدمير الذاتي بطرق خفيّة ومروّعة. تقول ديفيز:
عندما ينجح العار في طمس الرغبة، لا يتم قمع الماضي والانفصال عنه فقط، ولكن تُطمس أيضاً أي قدرة على تخيل مستقبلٍ يجسّد الأمل والإبداع في العلاقة الإنسانية. عندما تُسد منافذ الرغبة بسبب العار الساحق، فإن هذا الجانب التخيّلي المهم لمستقبل يحوي إمكانية تحقيق الإشباع والاعتراف في العلاقات يصبح محظوراً.
ماهو العار؟
كلمة "العار" محمّلة بالكثير من المعاني الباعثة على النفور، حتى أني ترددت في استخدامها، وفكرت ماذا لو استخدمت الخزي بدلاً منها؟ أليست ألطف وأخف وقعاً. حينها استوعبت أني ربما أحاول الهروب من ثقلها!
نميل إلى رؤية العار كوحش يجب أن نهرب منه بأي طريقة، وبأي ثمن.
سألت المتابعين على تطبيق x عن تعريفهم للعار من منظور خبراتهم الخاصة، وكان هناك شبه إجماع علي هذه الثنائية: الانكشاف غير المرغوب به، والرغبة الملحّة بالاختفاء، يمكن القول بأن لحظة الاحساس بالعار هي اللحظة التي ندرك فيها انكشاف الذات ونسعى إلى مواراتها، لحظة حدوث الثقب الذي يمثل انتهاكاً لاحساسنا بالحدود والخصوصية، يخبرنا هذا بطبيعة الوسط الذي يتشكل فيه هذا الشعور: يوجد هناك (الذات) و(الأعين) التي تراها. إن العار الأساسي يتعلق بمن أنت، وكيف تُرى.
يفترض جان بول سارتر في عمله الوجود والعدم وجود علاقة بين العار والاحساس بالذات. حين نواجه الآخر، نصبح مجبرين على مشاركة عالمنا معه. أيضًا، نصبح مدركين تمامًا لحقيقة أنه يستطيع رؤيتنا، وتجسيدنا، والحكم علينا. وهذا، بالنسبة لسارتر، هو جوهر العار. أن نتعرف على أنفسنا كشيء خلقته نظرة الآخر. ثم نضطر نحن بدورنا إلى الحكم على أنفسنا. وبالتالي، فإن العار يخلق إحساسًا بالذات متمركزًا خارج أنفسنا. [2]
ربما هنا تكمن سطوته، أنه متمركز في الخارج. موجّه إلى الداخل.
ينتمي العار إلى مشاعر الوعي بالذات Self-conscious emotions أو المشاعر الأخلاقية Moral emotions وصف جوزيف بورجو Joseph Burgo العار بأنه فرع من شجرة عائلة مشاعر تنتمي جذورها إلى الوعي المؤلم بالذات، مثل: الذنب، الخجل، الإحراج، والإهانة. والمشترك الأبرز بينهم هو الوعي المؤلم بالذات، جميع هذه المشاعر لها وظيفة متشابهة تتمثل في التنبيه إلى انتهاك المعايير الاجتماعية والأخلاقية، ولها أيضا أساس فسيولوجي مشترك. [3]
تناولت العديد من الدراسات الفروقات بين هذه المشاعر، وتوصلت إلى نتائج غير حاسمة تماماً، لكنها أكدت على الفرق الواضح بين العار والذنب في وجهة الشعور، فالذنب موجّه إلى الآخر، وهو مرتبط بسلوك معين، يتبعه غالباً محاولة لتصحيح الوضع واستعادة القبول الاجتماعي. بينما مشاعر العار والإحراج أكثر تقارباً في كونها موجّهه للذات، وفي أثناء معالجتها تتنشط في الدماغ نفس المنطقة المسؤولة عن تثبيط الحركة والكلام. الإحراج، بخلاف العار، قد يؤدي إلى سلوكيات تعويضية لاستعادة القبول الاجتماعي. أيضاً يختلف العار عن الإحراج في الشدة (العار أشد من الإحراج)، وفي المدة (العار أكثر ثباتًا من الإحراج) وفي عمق التمركز (العار يمس الذات الداخلية، بينما الإحراج يمس الشخصية الظاهرة). أما الفرق بين العار والشعور بالإهانة/ الإذلال فهو أكثر وضوحاً، نشعر بالإذلال حين يقلل الآخرون منا ونحن ندرك بأن ذلك غير منصف لنا، مثال: الطالب الذي يعلن المعلم رسوبه أمام الجميع ويصفه بالغبي، سيشعر بالعار العميق إذا كان لديه هذا التصور عن نفسه بأنه غبي، لكنه سيشعر بالإذلال إذا كان يدرك عكس ذلك.[4]
العار المرضي والعار الصحي
من المفيد أن نفرق بين العار بوصفه شعور طبيعي والعار المرضي pathological shame
إذ ينطبق على العار ما ينطبق على جميع المشاعر والحالات الإنسانية؛ على مستوى معتدل، يكون ضرورياً للعيش الجيد، وعلى مستوى أعلى أو أدنى، يصبح مرضيّاً، ويؤدي إلى الكثير من العذابات.
للعار الصحي وظائف أخلاقية وجمالية وذوقية تساعد على نمو ذات متسقة ومندمجة مع محيطها، إذا لم نشعر بالعار لن توجد لدينا أي دوافع للتحسن والنمو والإبداع.
ولعل أقرب ما يتسق مع هذا المعنى هو مفهوم الحياء/الخجل وهو السمة التي تجعل الإنسان يقظاً لوجوده الجسدي والمعنوي، مستحضراً لوجود الآخر، مراعياً لنوع الأثر الذي يتركه في نفوس من حوله، وهو بالقدر المناسب فضيلة محمودة. وعكسه الشخص الذي لا يخجل أبدآ وهو من نصفه بلغتنا العامية " ما يستحي على وجهه"، يكون محملاً بمستوى لا يطاق من الاستحقاق. شخص لا يشعر بالعار أبداً، لن يضبط أياً من نوازعه، لن يسعى لتحسين نفسه، وتهذيب أخلاقه، ومن المسلّم به بأنه سيكون مسخاً بشرياً غير مرحب به في مجتمعه.
أما العار المرضي فهو الجزء السام الذي يتفرع من الشجرة، الجزء الضار الذي لا نفع منه. هو تلك الصورة الذهنية الراسخة للذات بوصفها معيبة ومشوهة، صورة ممزوجة العاطفة، ومتوغلة في الجسد، وممتدة في الذاكرة.
العار أوحش السجون وأكثرها تنكيلا بالإنسان، غرفة تعذيب ذاتية، جدرانها مبنية من المرايا المهشمة التي تري الشخص صورته مجزأة ومشوهة، سقفها مليء بمكبرات الصوت التي تهتف بلا كلل ضده. انظر إلى أي أحد لا يجد السلام مع نفسه ومع الناس، وستجد هذا السم متوارٍ بداخله في مكانٍ ما. يمنعه امن اقتناص الفرص، من تلقي الحب، من مشاركة مشاعره وأفكاره، ويعزله عن كل ما يمكن أن يغذي أو ينمي ذاته.
جذر العار المرضي: غياب الترحيب الوالديّ
في أحد أعماله التي تدرس تأثير الإساءة والإهمال على الأطفال يقول ليونارد شينقلد Leonard Shengold
"إن هويتنا في البداية تعتمد على قدر الرعاية الوالدية الجيدة، والتي تتحدد جودتها بالقدر الذي يصل فيه هذا الشعور إلى الطفل: من الجيد أنك هنا"[5].
إن الطفولة التي يغيب فيها الترحيب والحفاوة، ويحضر العنف اللفظي والجسدي أو الحرمان والإهمال تمثل الحالة المعاكسة، وتنقل للطفل رسالة على الطرف النقيض:"ليس من الجيد أن تكون هنا، أنت مجرد مشكلة”.
تنتقل هذه الرسالة إلى التمثيلات الداخلية أو نماذج العمل الداخلية كما وصفها جون بولبي، وعندما يتعامل الشخص في علاقاته منطلقاً من هذه الرسائل المخزنة، يظهر العار المرضي، ويصيب التفاعلات الاجتماعية بالشلل.
والعجيب، أن هذا العار قد يتكثف حين يتلقى الإنسان الحب، يخاف من أن تخترق رياح هذا الحب نوافذ غرفته القديمة، وتكشف عن سره الدفين، بأن اولئك الذين أحضروه إلى هذا العالم لم يحبوه كفاية، لم يروه ذكياً وجميلاً وكافياً.
حين لا يستوفي الإنسان معايير مجتمعه الصغير الأول، أو يتوهم عدم استيفاءها، يحتله عار عدم الاكتمال، عار عدم استحقاق الحياة.
استحضر هنا العديد من العوامل الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي قد تولد العار المرضي، وتساهم في تفاقمه، لكن أرى أن الترحيب الوالدي هو جذره الأول.
من تلقى المحبة الأولى بشكل جيد لا يصل العار إلى أصل ذاته مهما استفحل.
مواجهة العار: التعاطف بيئة معادية للعار
"ما هو الأمر الأكثر إنسانية في نظرك؟
- أن تقي أحدهم من الشعور بالعار.
ما هو ختم الانعتاق؟
- لم يعد يشعر بالعار أمام نفسه."
العار شعور مقنّع، لا يأتي أحد ليخبرك مباشرة بهذا الشعور حيال نفسه، هناك العديد من الآليات الدفاعية التي يستخدمها الأشخاص للتعامل مع هذا الشعور الداخلي، هناك من ينكره ويغطيه بالعظمة الوهمية، وهناك من يدركه ويحاول التحكم فيه بحيل مرهقة ومستنزفة.
وفي معظم الأحوال، يتعامل الناس مع العار كما لو أنه ليس موجود، وهذا ما يجعل وجوده معيقاً.
من المأساوي التفكير في حياة تبدأ وتنتهي بتعرّض شديد للعار، لكن ذلك لا يحدث دائماً، يكمن الأمل الأكبر في قدرة الشخص علي التواصل مع نفسه بطريقة إنسانية، وهذا أمل يقدمه العلاج النفسي الجيد، وتقدمه الحياة نفسها بقدر ما فيها من بشر يحملون الرحمة والاهتمام والتعاطف.
التعاطف بيئة معادية للعار، لأن الأعين الموجودة هناك لا تراقب وتترصد، لتحكم، إنها أعين تحاول أن تراك من الداخل، لتدرك وتشعر بخبرتك، وهذا الوصول الهادئ إلى الداخل يسمح للعار بالظهور، والظهور يخلق إمكانية التواصل، فالعار في أصله خوف من الاقصاء والانفصال كما ترى برينيه براون. العار لا يزول لكنه حين يظهر تزيد احتمالات تحوّله إلى المسار الصحي.
"خلال خمسة وثلاثين عامًا من ممارسة العلاج النفسي، كان الدرس الأكثر أهمية الذي تعلمته هو أن الطريق إلى احترام الذات الحقيقي يمر حتمًا عبر أرض العار ولا يغادرها تمامًا. على طول الطريق، غالبًا ما يؤدي مشاركة الفرح والفخر بالإنجاز مع الأشخاص الأكثر أهمية بالنسبة لنا، إلى تحويل لقاءاتنا مع العار من هزيمة مؤلمة إلى فرصة للنمو وتحقيق الذات."
جوزيف بورجو [3]
كل من لديه القدرة على التعاطف يملك سلاحاً فائقاً ضد العار.
لا تخشَ من أن يُرى سرك، هو ليس سرك وحدك، انه سر الوجود بأكمله: نزهر حين نُحَب، وننكمش حين نُهمَل، تماماً كما وصف كارل يونغ "العار هو العاطفة التي تأكل الروح"
تتآكل أرواحنا إذا طمسها العار، ولم يسمح للحب بأن يعبر إليها.
المصادر:
1- Davies, J. M. (2023). Reawakening Desire: Shame, Mourning, Analytic Love, and Psychoanalytic Imagination. Psychoanalytic Dialogues, 33(3), 285-301.
2- Burgo, J. (2018). Shame: Free yourself, find joy, and build true self-esteem. St. Martin's Essentials.
3-سارتر، جان بول. (1966) ترجمة: عبدالرحمن بدوي . الوجود والعدم . منشورات دار الآداب، بيروت.
4- Piretti L, Pappaianni E, Garbin C, Rumiati RI, Job R, Grecucci A. The Neural Signatures of Shame, Embarrassment, and Guilt: A Voxel-Based Meta-Analysis on Functional Neuroimaging Studies. Brain Sci. 2023 Mar 26;13(4):559. doi: 10.3390/brainsci13040559. PMID: 37190524; PMCID: PMC10136704.
5- Shengold, L. (1989). Soul murder: The effects of childhood abuse and deprivation. New
Haven, CT: Yale University Press.