مراجعة لمسلسل صديقتي المذهلة My Brilliant Friend
هذا المسلسل هو عمل للروائية الإيطالية المجهولة، صاحبة الاسم المستعار ايلينا فيرانتي، وهذه أحد الأمور التي جذبتني نحو العمل، أن يقرر كاتب تجريد إبداعه من أناه، فهذا ربما ينم عن أصالة وإخلاص استثنائي لما ينتجه.
أنتجت المسلسل شبكة HBO بإتقان يسلب الألباب، المسلسل يتمحور بشكل أساسي حول العلاقة بين طفلتين تسكنان في حي بائس في نابولي سنة 1944، حي يسود فيه الفقر، العنف، الظلم، الاستبداد والذكورية. إحداهما إلينا غريكو، وهي عين المشاهد، مونولوجها الداخلي هو بوابتنا للقصة كلها، و الثانية هي صديقتها ليلا، مركز هذا المونولوج، فمعظمه هو لها أو عنها أو متأثر بها.
يصور الجزء الأول من المسلسل نقطة التقاء دواخل هاتين الطفلتين، حين لمحت كل واحدة في عين الأخرى نجاتها من البؤس.
ولادة الصداقة
بدأت هذه الصداقة الاستثنائية بشكل غريب، ربما كان الرابط الأكثر وضوحا بينهما هو الذكاء، كأن كل منهما ترتكز على ذكاء الأخرى. علاقة ليلا وايلينا مليئة بالمشاعر القوية، المعقدة، والمتناقضة، وهي مزيج بين الود والتحدي، إذ كانت كل واحدة ترى في الأخرى نداً لها.
شكّلت هذه المشاعر لكل واحدةٍ منهن مساراً خاصاً بها. ليلا ممتلئة بذاتها، معتدة، جامحة، على الرغم مما تعانيه من فقر مدقع، وظروف عائلية قاهرة، إلا أن لديها إرادة لا يمكن إلا أن تحقق ذاتها.
على عكس ايلينا الفتاة الهادئة المهذبة القابعة تحت سلطة أم غيورة ومتحكمة، تستمد ايلينا صورتها الذاتية من ليلا، كانت تتبعها كالظل، تحاكيها، وتتماهى معها. استطاعت ليلا أن تحيط بايلينا من كافة الجهات. وتتقوى من خلال وجود هذه العلاقة. بينما كانت ايلينا غارقة في الانبهار بليلا، وجدت فيها نموذجاً مهماً كان مغيباً تماماً في بيئتها: نموذج الفتاة القوية والقادرة. كل منهما تعطي الأخرى شيئاً ما، والتنافس هو سيد الموقف بينهما، التنافس المحتدم بالرغبة في أن تحظى كل منهما بجدارة وثقة الأخرى. يظهر ذلك جلياً في مشاهد تبادل النظرات، نظرات استكشاف وتطلع. أثناء الأحداث الدموية والعنيفة التي تحدث في الحي كانتا ترمقان بعض بنظرات تومئ بأن إحداهن ترى في الأخرى انعكاسا لها. وهكذا، تشي النظرات بالكيفية التي تطورت بها علاقتهما.
يتجسد في مشهد رمي الدمى-حين رمت ليلا دمية ايلينا- تصويرا واضحا لأبعاد التناقض في سماتهما الشخصية، وكيف شكل ذلك عامل جذب، ساهم في ديمومة العلاقة، كانت ليلا تختبر إقدام وشجاعة ايلينا التي كانت أكثر تخوفاً وحذراً، ومن هنا بدأت المغامرة المشتركة لاستكشاف الحياة.
في مشهد طرق الباب - الذي تكرر أكثر من مرة خلال المسلسل (تمسكان بيد بعضهما وتطرقان الباب) رمزية بديعة للعلاقة، حيث التحام الحذر والشجاعة، من هذه المشاهد يمكن أن ترى بريق صداقتهما.
مفترق الطرق
خاضت ليلا الحياة مبكراً، فكانت تجاربها كالإعصار الذي أربك ايلينا. ايلينا، التي لا زالت تتحسس البثور على وجهها، وتتردد وتلوذ بالصمت والقراءة.
وعلى الرغم من أن ايليا كانت أوفر حظاً وتمكنت من إكمال دراستها، لم تتمكن ليلا.
في المشهد الذي قذفها والدها فيه من نافذة المنزل حين أصرت على رغبتها بالدراسة بينما أرادها هو أن تبقى لتعاونهم في عمل العائلة. قذفها بلا رحمة، وأبت أن تتأوه أو تبكي، لقد ابتسمت وهي ترتجف من آلامها.
سلبها إرادتها، لكن لم يسلب منها كرامتها، وهذا موقف يمكن أن يلامس أي أنثى تعرف معنى ذلك جيداً.
تفرقت الطفلتان، ايلينا مابين دراستها والكتب والمكتبات، وليلا مع أخيها في محل الأحذية تعمل وتخطط لتغير واقعها ببسالة لافتة، هذه السمة في ليلا، محاولاتها الحثيثة لتغير واقعها، وواقع عائلتها، وواقع الحي بأكمله مثيرة للإعجاب.
على صعيد الحياة العاطفية كانت ليلا مطمع لكل الرجال من حولها، يستطيع الجميع أن يلمح سحر ليلا ويقع فيه بكل سهولة، وهذا الأمر زعزع ثقة ايلينا بنفسها.
أحد الشخصيات المحورية في المسلسل نينو صديق الطفولة، وحب ايلينا الأول. وهو الشرارة التي أشعلت التنافسية في العلاقة إلى أقصاها، حين عاد بعد انقطاع والتقى بهما، حصلت عليه ليلا في البداية، كعادتها تحصل على ماتريد، لكنها لا تجيد الاحتفاظ به. فقد هجرها نينو بعد أن هجرت زوجها لأجله.
بعد عناء، فازت ايلينا بحب طفولتها، وهجر لأجلها زوجته. وهذا ربما انتصار ايلينا الوحيد.
ملامح العلاقة التي نسجتها الكاتبة بدقة وإتقان آسر، لا يمكن أن تمحى من الذاكرة بسهولة -على الأقل ذاكرتي أنا-. ملحمة تصور داخل الأنثى بدقة لامثيل لها. التناقض والانسجام الهائل بينهما، تروّي وهدوء ايلينا، واندفاع وإصرار ليلا وكيف كانت هذه السمات نقطتان مرجعيتان لكلتيهما. الولاء، الانفتاح، والثبات الذي أحاط بالعلاقة على مدى السنوات، نسجت كل هذه المعاني شاعرية وروعة العمل. تفاصيل كثيرة أشعر أني لن أن أنتهي أبداً لو فكرت في سردها، ووصف وقعها على نفسي كمشاهدة.
لكن عبقرية العمل كانت في صياغة شخصية ليلا، التي استطاع سحرها المدهش أن يدفعني لأكتب عن هذا العمل، و في هذا الاقتباس تصف ايلينا صديقتها ليلا.
قالت لي مرارًا، خلال أكثر من ثلاثين عامًا، إنّها تريد أن تختفي دون أن تترك أثرًا، لم يخطر في بالها أن تهرب أبدًا، ولا أن تغير هويّتها، ولم تحلم بأن تبدأ حياة جديدة في مكان آخر. ولم تفكر في الانتحار إطلاقًا.. كانت نيّتها في أمرٍ مختلف كليًا: كانت تريد أن تتبخر، أن تتلاشى كل خلاياها، حتى يستحيل أن يعثر أحد على أي شئ يخصها.