لئلّا يضطر أحدٌ لعيش فظاعة الوحدة

الوحدة شعور عريق، ممتد منذ بداية الخلق، حين استوحش أبونا آدم، واستأنس بوجود أمنا حواء. حين ارتبك سيدنا موسى، واطمأن بدعم أخيه هارون، حين فزِع نبينا محمد، وتدثر بحضن زوجته خديجة.

عرفت مؤخراً بأن الوحدة تمثل لي معنىً خاصاً، (لئلّا يضطر أحدٌ لعيش فظاعة الوحدة) يكاد يكون هذا العنوان قابع خلف الكثير من الأمور التي أهتم بها، وأسعى لأجلها. وأرجو ألّا أغفل عن حقيقة أن الوحدة بهذه العراقة والتجذر والتوسع فينا. وألا أقع في فخ توصيفها وتصنيفها بطريقة جامدة. هدفيهو أن تصل هذه الكلمات إلى موطن هذا الشعور في نفس من يقرأها، ولعلها تمر كنفحة نسيم باردة.

لوحة للرسام إدوارد هوبر

ماهي الوحدة Loneliness ؟

لا نحتاج إلى الإيغال عميقاً في اللغة لنعرّف الوحدة، كلنا نعرف شكلها الأوليّ، إنها الشعور المرير المصاحب لغياب الآخر عن عالمنا، كيفما كان هذا الغياب: جسدياً، عاطفياً، أو ذهنياً. نكون وحدنا إذا لم ننجح في مشاركة الآخر بما يدور في عالمنا الداخلي، أو لم ينجح هو في أن يفهمه ويمسه. إذا لم نشعر بالانتماء حيث نحن، وكأننا منزوعي الجذور. لابد وأن نكون جميعاً قد جربنا لفحاتٍ من هذا الشعور في لحظة/ موقف/ مرحلة معينة من حياتنا: حين كنت طفلاً، ولم يدخلوك أقرانك في لعبتهم. حين كنت حزيناً، ولم ينتبه والديك إلى حزنك. حين كنت بأمسّ الحاجة إلى صديقك/ شريك حياتك، ولم تجده. هذه الحالة الشعورية -التي ربما بينما تقرأ الآن استحضرتْ ذاكرتك شيئاً منها - هي الوحدة.

هناك تعريف شائع نسبيًا للوحدة في علم النفس، و يتم الاستشهاد به على نطاق واسع في الأبحاث حول هذا المفهوم:

"شعور مؤلم يصاحب إدراك المرء بأن احتياجاته الاجتماعية غير مشبعة، من خلال كم أو جودة علاقاته الاجتماعية الحالية" . (Hawkley&Cacioppo,2010)


من منظور تطوري، كثيراً ما توصف الوحدة بأنها ألم اجتماعي، إشارة إلى أن الحياة الاجتماعية للفرد ليست مرضية. كاسيوبو  Cacioppo أحد الذين يتبنون هذا التعريف يرى بأن الوحدة تنبيهٌ يقول لنا: علاقاتنا ليست بخير. استجابة تكيفية، كالألم الجسدي الذي يخبرنا بأن هناك خطبٌ ما في اعضائنا الداخلية. ويجدر الإشارة إلى أنه لا يدعي بهذا أن الوحدة تحفز دائمًا الشخص الذي يشعر بها على تحسين علاقاته الاجتماعية.

من أين ينشأ شعور الوحدة؟

لا تأتي الوحدة دائماً من عدم وجود أشخاص حولك، بل تأتي من عدم القدرة على التواصل معهم حول الأمور المهمة بالنسبة لك.

كارل يونغ

الوحدة كمفهوم شائع، لها مدى شاسع في أفهام الناس، غالباً ما يحصل الخلط بين العزلة " solitude" والوحدة، فالعزلة والشعور بالوحدة غالبًا ما يحدثان معًا، إلا أنه يمكن تجربتهما بشكل مستقل عن بعضهما البعض، لا يشعر الأفراد المعزولون اجتماعيا دائما بالوحدة. على العكس، قد يشعرون أحياناً بالراحة، وتكون العزلة محطة ضرورية بالنسبة لهم لاستكشاف الذات، وتوليد الإبداع. كما أن وفرة التواصل الاجتماعي لا تمنع الشعور بالوحدة الحادة. إذن، متى ولماذا يشعر الناس بالوحدة؟

عوامل عديدة قد تساهم في أن يتولد هذا الشعور الداخلي بأنك وحيد، هناك شخص يشعر بالوحدة لأنه في حفلة مليئة بالغرباء، وآخر يشعر بالوحدة لأن شريكه قد مات، وثالث ينتابه شعور مزمن بالوحدة في جميع مجالات حياته. إننا نعيش هذا الشعور بطرق مختلفة، يمكن وضعها في محورين بحسب العوامل التي تساهم في الشعور بها: الوحدة الموضوعية، والوحدة ذاتية.

الوحدة الموضوعية: الناشئة عن عزلة اجتماعية فعلية objective social isolation :

هي الوحدة التي تنشأ من نقص فعلي في الروابط والتفاعلات الاجتماعية، إن ما حدث للعالم خلال جائحة فايروس كورونا، يجسد كيف يمكن للعزلة أن تولد شعوراً غامراً بالوحدة، لقد فصلنا إجباراً عن بعضنا البعض، ساهمت الإجراءات الوقائية في خلق مسافات بيننا، كان الأخرون مصدر تهديد وخطر محتمل لنا، والتباعد هو آلية البقاء الوحيدة، كنا نبتعد حتى عن أقرب الناس لنا حين يمرضون، هذا الوضع يتعارض بشكل صارخ مع طبيعة الإنسان وحاجته للتواصل والتقارب مع الآخرين، لذلك تصاعدت في هذه الفترة حالات الشعور بالوحدة. نتيجة لهذا التباعد الإجباري.

 واي ظرف يجبر الإنسان على الانعزال عن الآخرين، قد يؤدي إلى الوحدة، كأن تسافر إلى بلد آخر، تعمل في مكان جديد، تفقد شخص عزيز كنت على تواصل وثيق معه.

الوحدة الذاتية: الشعور الذاتي/الداخلي بالوحدة subjective feelings of loneliness :

يشير علم الأعصاب الاجتماعي على حقيقة أن هذا النوع من الوحدة مدفوع بمدركات الشخص حول علاقاته الاجتماعية، والتي تتأثر بعوامل عديدة، منها: سمات الشخصية، التحيزات الذهنية، تفضيلات التواصل الاجتماعي، وخبرات الماضي،  لكن ليس الصفات الموضوعية للعلاقات الاجتماعية في حد ذاتها.

 قد يكون لديك بعض سمات الشخصية التي تساعد على تشكيل هذا الشعور، كالعمق والتوجه الاستكشافي نحو الذات، قرأت مقالاً عنوانه "الوحدة، كأمارة من أمارات العمق" يقول فيه الكاتب: "ربما تشعر بالوحدة لأنك متوجه إلى الداخل، تميل أكثر إلى سبر الأغوار، وهم -الآخرون- مع كل ذكائهم وفطنتهم وقواهم العقلية، ليسوا كذلك. قد يكون لديهم الكثير من الأمور ليتحدثوا عنها، لكنهم -ببساطة- غير مهتمين بالبحث بعمق داخل أنفسهم. " حينها لا يكون التواصل بينك وبينهم متسقا.

قد تكون خلال تنشئتك الاجتماعية اكتسبت أنماط تفكير غير صحية فيما يخص العلاقات: ربما تكون لديك توقعات للارتباط الفعلي غير متسقة مع الواقع، أو أنك قد حُذِرت من الآخرين إلى حد أصبحت لا تثق في الآخرين بما يكفي لتوثق علاقاتك بهم، أو أنك تنتقد نفسك والآخرين بكمالية مفرطة لا تسمح لك بتشكيل أي رابطة عميقة معهم.

كما أن الشعور المزمن بالوحدة قد يكون نتيجة لتجربة الوحدة في الطفولة، الطفل الذي تعرض للإهمال العاطفي قد يتشبث بهذا الشعور بوصفه الرابطة التي تربطه بوالديه، كأحد آليات الترابط التي تسعى في الأصل للحفاظ على العلاقات الحميمية، يمتد هذا الشعور بفقد الحضور العاطفي للوالدين أو أحدهما، ليضفي الطابع العام على مزاج الشخص: كنت وحيداً، وسأبقى وحيداً. يرى المحلل النفسي البريطاني دونالد وينيكوت بأن التجربة المبكرة لما أسماه بـ "آباء جيدين بما فيه الكفاية" بمثابة حصانة من الشعور بالوحدة. الآباء الجيدين، ليسوا مثاليين. لكنهم يهتمون بعمق باحتياجات الطفل ومشاعره، ويقدرونه، فأينما ذهب هذا الطفل، فإنه سيحمل معه إحساسًا مستمرًا بحضور الوالدين واهتمامهم.

قد يكون الشعور بالوحدة مفهوم ومبرر في الحالة الأولى: حين نفتقد فعلياً للآخرين، تنعزل عن محيطك الاجتماعي لأي سببٍ كان. إلا أن هذا الشعور يصبح محرجاً بشكل خاص عندما يكون كما في الحالة الثانية: مصدره خفي، وغير مبرر بالنسبة لنفسك وللآخرين، على الرغم من أن المرء محاطٌ بالعائلة والأصدقاء الداعمين، إلى أن هناك شيءٌ ما يعيق تحقق الشعور بالترابط والاندماج مع الآخرين. قد ينشأ في هذا الوضع استراتيجيات مواجهة غير صحية: كأن نوجّه اللوم إلى ذواتنا ونشعر بالعار أو الغرابة. أو على الطرف النقيض، ننزه ذواتنا، ونستنقص من الآخرين، ونزدريهم. ليس علينا أن نتطرف إلى هنا أو هناك، الأجدى أن نحاول تتبع جذور وحدتنا، وفهمها، حتى يصبح بوسعنا احتواءها، وتخفيف حدتها.

الحلقة المفرغة للوحدة

الذي يجعل الشعور بالوحدة ماكر بشكل خاص، هو أنه يحتوي على هذا الحصار، الراحة الحقيقية من هذا الشعور تتطلب تعاون من الآخرين. وكلما أصبحت وحدتنا مزمنة، قلت قدرتنا على إجراء مثل هذا التعاون.

لارس سفيندسون

يصف الكاتب هنا معضلة الوحدة، وهي صعوبة التحرر منها، إذ يتطلب التحرر منها التعاون مع الآخرين، حين يكون التعاون أصعب ما يمكن على الشخص. يؤثر شعورنا بالوحدة على إدراكنا للمواقف والتفاعلات، فنرجح غالباً احتمالات العداء الموجه لنا، ويضعف الشعور بالوحدة من مهاراتنا الاجتماعية، ويجعل سلوكنا دفاعياً أحياناً، واحياناً هجومياً. وهذا بالطبع ينعكس على الطريقة التي سيتفاعل بها الناس معنا، حينها تتأكد لنا توقعاتنا الاجتماعية المتشائمة: الآن بدأ الآخرون في معاملتنا بشكل سيء، نحن وحيدون لأن الناس لا يشبهوننا، لا يفضلون قضاء الوقت معنا، أو لأنهم سيئين. بينما في الأصل هي نبؤة حققت ذاتها.

ماذا يمكن أن نفعل لتخفيف حدة هذا الشعور، والوقاية من تبعاته على صحتنا الجسدية والنفسية؟

حتى نتواصل مع الآخر بشكلٍ كامل، علينا التواصل مع أنفسنا أولاً، إذا لم نتمكن من احتضان وحدتنا، فإننا -ببساطة- سنستخدم الآخرين كدروعٍ ضد هذه الوحدة

ايرفين يالوم

إن الهرب العبثي من الوحدة، أو التسليم الانهزامي لها هو أسوأ ما يمكن أن يفعله الإنسان بنفسه. إن درجة من الشعور بالوحدة هو أمرٌ لا مفر منه، إلا أن العيش مع هذا الشعور لفترات طويلة هو أمر له تبعاته الضارة على الصحة النفسية والجسدية كما أثبتت ذلك الكثير من الأبحاث النفسية. الوحدة -في كثير من الأحيان- ليست اضطراباً يمكن علاجه، بل شعور يمكن ضبطه، والحد من تأثيراته السلبية. وعند النظر إلى كيفية التعامل معه، يجب ألا نغفل عن تنوع العوامل التي تؤدي إليه، فالاعتراف بهذا الاختلاف أمر ضروري لفهم كيف يمكن إدارة هذا الشعور. هنا بعض التوصيات العامة التي قد تساعد في تخفيف الشعور بالوحدة:


- أعرف نفسك: قد يبدو غريباً القول بأن على الإنسان تجديد معرفته بذاته، نحن نتغير باستمرار، واحتياجنا للتواصل يتغير معنا، علينا أن نمحص هذا الاحتياج حتى نستطيع تلبيته. ماهي قيمك؟ ماهي اهتماماتك؟ ماهي الأمور التي تحب مشاركتها؟ إجابات أسئلة كهذه قد تقودك إلى معرفة نوع التواصل الذي يشعرك بالرضا.

 

- أفهم جذور وحدتك: إذا فهمت من أين يتدفق هذا الشعور بداخلك، وفي أي مجال في حياتك تزداد حدة هذا الشعور، فمن المرجح أن تكون أكثر قدرة على التعامل معه، وسد الفراغ الذي ينمو منه. اسأل نفسك: متى شعرت بأني وحيد؟ كيف هو حضور الآخرين في حياتي؟ كيف هو حضوري في حياتهم؟

 

- بادر بخطوات إلى الآخر: مهمة بدء العلاقات، والحفاظ عليها تبدو في غاية الصعوبة بالنسبة إلى البعض، وبالنسبة للبعض الآخر، تحدث بشكل تلقائي وفطري. على النوع الأول أن يبذل جهداً أكبر في التعامل مع ما يعيق بناء العلاقات، سواء كانت خبرات شخصية، معتقدات، توقعات، أو نقص في بعض المهارات الاجتماعية. العلاج النفسي كثيرا ما يساعد هنا في حال كانت هذه الصعوبات شديدة بدرجة لا يمكن للشخص التعامل معها بمفرده. ولا يمكن إغفال كيف تساهم بعض الأعراف الاجتماعية في تضييق مجال خلق العلاقات، كما أن هناك بعض الحالات الظرفية مثل: نقص الموارد المالية، ضغوط العمل، تحد أيضا من إمكانية بناء العلاقات، إلا أن هناك دائما طريق لبناء علاقات مع أشخاص مقاربين لمستواك القيمي والفكري، يمكن الاستفادة من مواقع التواصل الاجتماعي، والتي تجدر الإشارة إلى أنها سلاح ذو حدين، فكما أنها قد تزيد من شعورنا بالوحدة عن طريق عزلنا عن محيطنا الاجتماعي الفعلي، إلا أنها أيضاً وسيلة فعالة -أكثر من أي وقت مضى- لبناء مجتمعات صحية ومتماسكة، وقد أشارت بعض الأبحاث التي أجريت خلال فترة الجائحة، إلى أنها كانت بمثابة المنقذ لصحتنا النفسية.

 

- وسع شبكتك: محدودية شبكة العلاقات الاجتماعية تؤدي إلى الوحدة، حتى لو كنت مرتبط بزوج/زوجة داعم ومهتم، فمن الممكن أن تشعر بالوحدة لأنك تفتقد إلى صديق مقرب. والعكس كذلك.  يحتاج الإنسان إلى شبكة من العلاقات الاجتماعية. العديد من الأبحاث حول الشعور بالوحدة تشير إلى أن وجود شبكة اجتماعية غنية ومتنوعة أمر مهم للوفاء بكافة احتياجات الإنسان الاجتماعية.

 

- تقبل مرور الوحدة: من الشائع الشعور بالوحدة أثناء المراحل الانتقالية في الحياة: الانتقال إلى مدينة جديدة، بدء عمل جديد. عندما تمر بتحولات في مكانك، أدوارك الاجتماعية، أو المهنية، قد يستغرق الأمر بعض الوقت لتستقر، وتجد لنفسك مكاناً حيث أنت. تشبه هذه الوحدة توقف مؤقت في محطة على الطريق لمنزلك، لا يجب أن تكون مصدر قلق.

Join