شَرَق
آخر ماتتذكره أنها أُطلق عليها الرصاص وأرداها قتيلة!
وكأن شريط أحداث خمسة أشهر خلت يلملم فيلمه الأسود ويكتنز المشاعر في لحظة ليصرعها شوقا.
نعم، هل سبق وسمعت بمن مات اشتياقا؟
لم يقتلها عنوة، لم يطلق أي رصاص كما يظن، لكنه استخدم أعتى أنواع الأسلحة وأخطرها.
إنه يسبح في شرايينها فلا تستطيع أن تشهق أو تزفر إلا وتجده يتسرب عبر خلاياها.
تكبّدت عناء الوقوف واقتربت من المنضدة تحاول التجلد، ومدت أصابعها لطرف الطاولة تتشبث بالأنفاس المتطايرة التي فقدتها وهي تظن أنها قتيلة!
قاومت لاسترجاع آخر ذكرى،
نعم كانت تهمّ لتنام إذ شعرت بجائحة اشتياق تنتابها..
لم تستطع كبته.. ضغط على رئتيها.
تحاملت على نفسها ومدت يديها نحو المنضدة.
استطاعت الوصول والتمسك بها بيد واحدة، بينما غدرتها الأخرى.
بما بقيت لها من قوة فتحت جزءًا يسيرًا من النافذة بحثًا عن الأكسجين.
وصرخت صرخة لم يسمعها أحد سوى نفسها.
حاولت أن تصرخ كي تلتهم أكبر قدر من الهواء عند ارتداد الصرخة لحنجرتها، لكن تلك الحنجرة خذلتها كما كل مرة تشرق فيها بالاشتياق.
بدأت تتخيل أنه هنا،
- نعم ، هنا بجانبي، على الكرسي المواجه لهذه الطاولة، يجذبني نحوه ويزاحمني في جلستي ضاحكا..
لتتداخل ضلوع الشوق فأحتضنه طيلة الوقت كيلا أفقده أبدا.
انسابت دمعة ساخنة في هذا الجزء فكم لاحتضانه ذكرى حميمة منسوجة بلون الغروب الدافئ المتسللة خيوطه عبر شق النافذة.
فكرت بالحديث مع نفسها عنه.
مدت يدها واستطاعت أخيرا الضغط على زر البصمة لجهازها.
فتحت صفحته وبدأت تكتب..
...
لم تكتب شيئا
فقط كتبت نقطة!
هي نقطة فقط من جنون الاشتياق الذي تَصعّد للذروة مؤخرًا.
اشتياقٌ يصعب التكهّن معه بموعد لقائه..
يصيب العقل بالأوهام.
بدأت تحادثه، لا بل تحادث ظله الكامن فيها.
تحاول إسكاته فكيف له الحق في أن يتكلم بينما هي تعجز عن ذلك!
من أعطاه السلطة ليعبث بقلبها، ويذيبه بـ تلك المشاعر!
أيقنت أنه غير مهذب حقا.
يستلذ باشتياقها ويصمت.
حسنا..
أقنعت نفسها بذلك حتى لا تنفجر بكاءً؛ لأن صوتها بدأ يتحشرج وشعرت بغصة تقف في حلقها وتمنعها عن الكلام.
هي تعلم يقينا أنه هناك..
أنها وللمرة الألف تعاتبه..
وللمرة المليون بعد الأخيرة تحلف أيمانا مغلظة أنها ستتجاوز عاطفتها وستُروى حتما.
الجهاز المبلل فقط أمامها هو ما فجر مشاعرها الحقيقية وعرّاها لمّا تأكدت من أن دمعها لا يستطيع خيانتها فهو يعي الحقيقة كل مرة.
يعي تمامًا أنه هناك خلف الخط الفاصل.
وراء المسافات عاجزٌ مثلها يختنق اشتياقا!