السينما وسيلة للتواصل مع الآخرين؛
لقاء مع صانع الأفلام جاسم الساعدي
في بداية هذا العام وقبل كل الفوضى التي خلَّفتها 2020.. صادفت بوستر على الإنستقرام من أحد مؤثرين مواقع التواصل الاجتماعي ذاكرًا فيه:
If you’re really into cinema, join us
“إذا كنت عاشقًا للسينما بحق، فانضم لنا”
والذين يعرفونني جيدًا يعرفون هوسي الذي لا يهدأ بالسينما. لقد جذبتني هذه العبارة أسرع مما يجذبني نداء والدتي لطاولة الطعام.. بدون تردد ابتعت تذكرتي بهدف استكشاف هذا المجتمع السينمائي في مدينة جدة الذي أسمع عنه لأول مرة.
عقد الكلاس في ليلة هادئة وتضمن مشاهدة فيلم قصير تخلله حديث مثري من مقدمة الماستر كلاس، ولكن ما أن أنتهى اللقاء حتى شعرت بوحدة شديدة فكان يبدو ان جميع الحاضرين يعرفون بعضهم بطريقة أم بأخرى ولوهلة أحسست أني خارج الدائرة وغمرتني رغبة ملّحة بالعودة إلى المنزل ولكن سرعان ما تلاشت بعد حديثي مع إحدى الحاضرات والتي انغمرت بالحديث لتخبرني أن كل المتواجدين يجمعهم شغف صناعة الافلام، شاكرة لدفعة الادرينالين التي تدفقت في جسدي ودفعتني لأن أجد نفسي لاحقًا في وسط نقاش بين كاتبة نصوص سينمائية ومخرج أفلام استرسلوا في حديثهم عن آخر تجاربهم واعمالهم في المجال.
عدت للمنزل ولا يزال ذهني متيقظ فواصلت البحث عن هذا المجتمع وتفاجأت ان المخرج الذي تحدثت معه قبل قليل هو أحد مؤسسيه فلقد كان متواضع ورحب الصدر و أوحى لي بمنظر الزائر وكان هذا أول لقاء لي مع المخرج جاسم الساعدي، صانع أفلام سعودي بخبرة تزيد عن عشرة أعوام في صناعة الاعلانات التجارية ومشاركات متنوعة في عدة أفلام قصيرة وطويلة. دون إطالة أترككم مع هذا اللقاء الممتع حيث يشاركنا بدايات دخوله للمجال، ونصائحه الذهبية التي اكتسبها خلال عمله فيه ويسعدني أن يكون الضيف الاول ضمن “سلسلة لقاءات صنَّاع الأفلام والكتَّاب والمؤثرين في السينما.”
لو صادفت غريبًا اليوم وسألك من هو جاسم الساعدي، كيف ستعرف بنفسك؟
“صانع أفلام يتمنى الارتقاء بصناعة ثقافية للأفلام، محب للقراءة في علم المجتمع والانسان، لدي شغف استكشاف الحضارات والثقافات المختلفة وبشكل خاص لأدب وتاريخ ثقافتنا المحلية العريقة.”
“درست هندسة ميكانيكة في ألمانيا وبعد تخرجي عملت في مجال السينما كان ذلك عام ٢٠٠٣ حيث عملت في مدن متعددة في المانيا بأدوار مختلفة، كانت البداية بالعمل في قسم الكاميرا ثم مدير مشروع ثم مشرف ثقافي وصولًا بي للعمل كمخرج سينمائي. عام ٢٠٠٨ عدت إلى السعودية وبدأت بالعمل في تقديم الخدمات اللوجستية لشركات من الخارج لتصوير الاعلانات التجارية في داخل المملكة، كانت مرحلة صعبة نظرًا لتعدد المنافسين حيث كانت معظم الشركات تصور إعلاناتها في دبي ومصر ولبنان وبشكل غريب في جنوب أفريقيا. أخرجت في حدود خمسين إعلان تجاري غير الوثائقيات والفيديوهات الترويجية، وخلال العامين الماضية أصبح تركيزي على تعليم وصناعة الأفلام السينمائية.”
— “ أحب كيف الإنسان معقد جدًا وبسيط جدًا في الوقت نفسه” وفي محاولاته لأن يزيد من معرفته يكتشف أنه لا يعرف شيئًا وهذا الشيء يدفعه للتعلم أكثر وأكثر - جاسم الساعدي.
الإبداع يحتاج هيكل
درست هندسة ميكانيكة ولكن الآن أنت تعمل في مجال فني مختلف تمامًا، هل دراستك للهندسة الميكانيكية أضافت لك؟ وماذا أستفدت من هذه النقلة؟
“ بالنسبة لي التغيير والانتقال متاح على الدوام فما أنا عليه اليوم ليس كما كنت عليه بالأمس، وشخصيًا أشوف أن كلاهما مكمل للآخر، فمهما يبان لنا في بداية الطريق أن الأثنين مختلفة لكن كل شيء نتعلمه يضيف لنا طريقة فكر مخصصة... فمثلًا لو أشتغل شخص بالمحاسبة المالية وبعدها عمل في السينما فهمه للأرقام حيفيده في صناعة الأفلام، والأمر ينطبق أيضًا على الميكانيكا وهي حالتي أنا، فأتوقع أن الهندسة الميكانيكية هي التي ساعدتني في النجاح بمجال السينما فمن خلالها فهمت طريقة كتابة النص السينمائي، فهمت أيش يعني كل مسمار يأثر على المكينة، أهمية الأشياء الصغيرة بالنسبة للصورة الكبيرة، أخذت أن الـ(Creativity also needs structure).”
الفن وسيلة للتواصل مع الآخرين
يكمل جاسم حديثه: “من وجهة نظري هناك مفهوم خاطئ وهو أن الفن عبارة عن وحي، صحيح أن الأفكار قد تكون نوع من الوحي ولكنه ليس وحي خارجي بل هو داخلي يجي من داخل الانسان ولكن اذا ماتنظم وترتب لا يستطيع صانع الأفلام أو الفنان أن يوصل فكرته. ففي النهاية الفن عبارة عن عملية إيصال ونشر لأفكار سواءً كانت مكتوبة، مسموعة، أو مرئية طبعًا فيه أهداف مختلفة ولكن في الأخير هي وسيلة تواصل (A Tool Of Communication)، وبطبيعتنا البشرية يصعب علينا إيصال المشاعر فنحاول أن نستخدم الفن كوسيلة لإيصالها ولكن كيف يصل الإحساس اذا ماتقدر تقوله في جملة؟ عشان كذا لازم نتبع هيكل مدروس يحقق لنا هذا الهدف وهنا يجي دور الهندسة الميكانيكية الي علمتني كيف أبني هيكل أوصل فيه أفكاري وكيف أخطط. والكثير يعتقد أن الهندسة الميكانيكية هي وظيفة غير إبداعية ولكن من وجهة نظري الهندسة وصناعة الأفلام متشابهين كثيرًا ولكن الفرق في الأدوات المستخدمة لتوصيل الفكرة فالمهندس يحل مشاكل ميكانيكة وكاتب النص السينمائي يحل مشاكل إنسانية في إطار حبكة القصة، فمن ناحية تقنيه هما الشيء نفسه.”
“A mechanical engineer job is to resolve issues and problems, and when you’re writing a script you resolve issues and problems.”
ماذا أستفدت من هذه النقلة؟
” النقلة علمتني كيف أقدر أخاطر، أكثر لحظة مخيفة كانت دخولي للمجال لأنها الخطوة الأولى، الواحد صغير في العشرينات وحياته متبلّورة حول فكرة عالم مألوف والتخيّل بأنه في عوالم أخرى خارج محيطه صعب. أنك تاخذ المخاطرة يعني أنك تنط في الظلمة ومافي أحد ينط في الظلمة! أنا لازم أشوف وين رح أوقف قبل ما أنط، فكان لازم أدرس الموضوع قبل ما أقدم عليه.”
هل كانت صعبة؟
“ بالتأكيد! أخذت معايا في حدود ثلاثة سنين من بداية الفكرة إلى أن طبقتها وبعدها تقعد تفكر هل إلي سويتو صح؟ هل الي سويتو غلط؟ كيف أقدر أثبت نفسي؟ أنا ندمان أنا مش ندمان.. ما كان هناك خط فاصل أقدر أقول هنا حدث التغيير ولكن أكثر شي مهم أننا ندرس التغيير ولكن مو لدرجة الهوس حتى لا نخاف منه ونوقف في نص الطريق وأنا مؤمن أن كل مره يخرج الشخص فيها من منطقة الراحة يتعلم شيء جديد.”
السينما فِكر
باعتقادك هل المعاهد والجامعات المختصة بتدريس الفنون السينمائية بأنواعها مهمة لبناء صناعة أفلام في السعودية خصوصًا انه مافي مؤسسات بهذا النوع للآن؟
“ ناس كثيرة بدأت قبل دخول السينما إلى المملكة، تقريبًا من عام ٢٠٠٦ مثل فيلم بركة يقابل بركة وغيرها من الأفلام الطويلة والقصيرة، لكن هل فعلًا الجامعات بتخرّج ناس ملمّين بالمجال لدرجة أنهم يطوّروا من صناعة معينة سواءً سينما أو غيره؟ هل المعدل الجامعي فعلًا يدل على مهارات وقدرات الشخص؟ إذا جاوبنا على هذه الأسئلة نقدر نعرف إذا نحن نبغى معاهد سينمائية أو لا..”
“ أيضًا في حال إنشاء معاهد سينمائية مين رح يدرّس؟ إذا تم تعيين الاشخاص اللي بدوا بمجال السينما السعودية فأغلبهم ما درسوا سينما بشكل أكاديمي ورح يعتمدو على التدريس من خبرة وهذا يعني أننا مضطرين نجيب ناس من برا، طيب أنا أشوف السينما فكر، فهل رح يجيبو فكرهم معاهم أو يكتفو بتدريس الجانب التقني واللوجستي من صناعة الأفلام؟”
“ هذه التساؤلات واجهتها لما تركت الهندسة وتوجهت لمجال صناعة الأفلام كنت أفكر في أي جامعة ألتحق لكن الي صار اني بدأت بالعمل بشغلات بسيطة في المجال السينمائي، شلت أسلاك وكراتين، اشتغلت في مناصب متنوعة والي أستغربت منه أنه ولا أحد في طاقم العمل درس بشكل متخصص في صناعة السينما، كثير (Director of Photography — DOP) ما درسوا تصوير.. يمكن شخصين فقط أعرفهم فعلًا درسوها، أعرف مصوّر سينمائي أول ما بدأ كان يشيل عدسات وينظفها بعدين أنتقل وسار مساعد كاميرا ثاني (2nd Camera Assistant) أستمر ثمانية سنوات حتى صار مساعد كاميرا أول (1st Camera Assistant) وفي الأخير سار DOP. فالتجربة هي الي اوصلته لهذا المنصب، وأكتسابه لمهارات متنوعة وهذه الخبرات لا يمكن الحصول عليها في جامعة واللي مشكلتها أنها تبغى تعطيك كل العلوم في وقت قصير ومحدود ولكن أساس صناعة السينما أنك تجرب وتكتسب خبرة على المدى الطويل، ورح نلقى ان اختيار طاقم العمل يعتمد على السمعة والخبرة فكمثال عند إختيار المخرج لمساعد مخرج مارح يدور على الشورييل أو حسابك في الأنستقرام والي سهل اننا نظهر فيه عملنا بشكل رهيب لكن هذا ما يعني أبدًا ان الشخص ناجح في عمله فراح يلجأ لسؤال الاشخاص الي أشتغلت معاهم لأنها صناعة عمليّة مافيها مجال للتعيين وتجربة الأشخاص وهنا نرجع لسؤال هل نحتاج معاهد؟ نعم نحتاج ولكن يرافقها إنطلاقة لصناعة السينما فكلاهما مكمل للآخر والطبيعي أن يبدأو الاثنين بأخطاء إلى أن يتحسنّوا سويًا.”
Word of mouth is the most powerful
ما الذي جذبك لمجال صناعة الأفلام؟
“ لما عشت في ألمانيا لفت إنتباهي قد أيش هما ما يعرفوا عن المجتمع السعودي، وبشكل عام المجتمعات الأوروبية عندها حب للاستطلاع فكنت أدخل في نقاشات عميقة وغريبة جدًا معهم وعلى الرغم من انهم مثقفين ولكن هذا لا يعني أن مصادر معرفتهم صحيحة. فأسئلتهم كانت تخليني أفكر كثير كيف أوصل لهم ثقافتنا وطبيعة مجتمعنا وكانت هذه الشرارة الأولى التي دفعتني بالتفكير بالسينما”
“ الشرارة الثانية نبعت من حبي للأفلام الغير ناطقة باللغة الإنجليزية، تعلمت الكثير عن المجتمع السويدي، الياباني، الكوري، البرازيلي من خلال الأفلام، وفي ألمانيا تعرفت على مختلف الجنسيات وكنت أشوف أفلامهم وكان دائمًا يسعدهم الحديث عنها عندما أجتمع معهم ولكن دائمًا أُسئل عن أفلام من السعودية؟ طبعًا هذا عام ٢٠٠٣، هذه المواقف أثارت بداخلي الكثير من التساؤلات عن ليش مافي أفلام سعودية؟ ومن هنا وضحت فكرة عدم تواصلنا مع الآخر فكيف نشتكي من عدم فهم الآخرين لنا ونحن لم نبادر بالتعريف بأنفسنا وثقافتنا لهم؟”
“ الشرارة الثالثة كانت مع كبر العمر والمرور بالتجارب، ومعرفتي بأن أهمية التواصل ليس بالضرورة مع الأخرين بل جوهرها في التواصل مع بعضنا البعض كمجتمع وهذه مرحلة عميقة تتطلب الكثير من الشجاعة والثقة والإنفتاح، ودرجة التواصل هذه سنصل إليها عن طريق معارض كتب ومهرجانات أفلام وهذه نقطة مهمة جدًا بالنسبة لي، أنا لما أسوي فيلم أو أكتب كتاب لازم أتواصل مع نفسي و أنتقدها و أشوف أخطائي.. فأنا أقصد بهذا الـ (Self Communication)
فبطبيعة الحال لن نصل للكمال ولكن إذا وصلنا لمرحلة متطوّره من هذا المفهوم فبطريقة أوتوماتيكية سوف ننجح بالتواصل مع الآخرين ولما نوصل لحقيقتنا كمجتمع هذا حيخلي الناس تنجذب لنا وتهتم فينا.”