تلخيص كتاب الموت 

من كتاب:الحكمة العربية، دليل التراث العربي إلى العالمية





"أجدني كأن جبال رضوى على عنقي، وكأن في جوفي الشوك, وأجدني كأن نفَسي يخرج من إبرة"

عمرو بن العاص

قول لعمرو بن العاص يصف به حشرجة الموت، كاستهلال مهيب يفتتح به المؤلف (كتاب الموت). وهو في هذا الكتاب يحاول استقصاء الحكمة العربية في حديثها عن الموت، وهي واسعة النظر متباينة الرأي، عريضة القول. فلا شك أن الموت شديد الوطأة، أليم الوقعة، لا يسلم من نسائم التراجيديا ، فهي نسائم في عرف من يتمنى الموت ويأنس به ويمتدحه، وهي تراجيديا في عرف الجازع من الموت مستثقله و الكاره له. و الموت حاضر في الثقافة العربية على الوجهين: النسائم و التراجيديا، السلب و الإيجاب، الجزع و التمني…


مأساوية الموت

فالموت بتبديه المأساوي حاضر بشدة في أقوال حكماء العرب و فلاسفتهم، فهذا الصوفي محمد بن إسحاق يقول: "ولو كشف لك عما أحدثت الأيام فيك من النقص وماهي عليه من هدم ما بقي منك، لاستوحشت من كل يوم يأتي عليك واستثقلت مر الساعة بك، ولكن تدبير لله فوق الاعتبار"،  وعن هيبة الموت قالوا:

إن كنتِ لا تدرين ما الموت فانظري   إلى دير هند كيف خطت مقابره

وقال ابن السماك في تبدي شديد لظلالية الموت التي يستشعرها العرب -أي كأن الموت من شدة مأساويته ظل يرافق المرء ويترصده- :

"عجبا لعين تلذ بالرقاد، وملك الموت معها على الوساد" بل إن هذه الظلالية ليست محكورة على علمائهم و حكمائهم فهذا أعرابي سألوه:"كيف أصبحت؟. فقال: أصبحت وأرى غروب الشمس وطلوعها يأخذان مني في كل يوم جزءا، وكم عسى أن يدوم عدد ليس له مدد حتى يبيد وينفد؟!" ومختصر هذه المأساوية يجمع في أرجوزة تنفي الحياة عن الأحياء وتعمم وصف الموت على الجميع :

واعجبا من عجب يا قومي  ميت غد يحمل ميت اليومِ !

مقام الموت بين الاسترسال و التمني و الجزع والسلو 

وأمام هذه المأساوية التي يتجلى فيها "مقام الموت" واستحضاره اتخذ حكماء العرب موقفين :

فبعضهم شجع هذا الاستحضار الجلي لهادم اللذات لفضائل يراها في الموت فبلغ به الحال بأن رثى نفسه، وحث على تذكر الموت بل وبلغ ببعضهم الحال أن يحفر قبره ويضطجع فيه كأشد تجلي لحضور الموت في أذهانهم. فهذا الموقف الاسترسالي مع الموت يتبدى عند العربي لدوافع وفضائل مختلفة رأوها في الموت:


 فبعضهم لا تقوم للحياة عنده قائمة بمفاهيم الحب الغريزي للحياة و التمسك بها، بل إن موازين الحياة و الموت ومعانيها تختلف عنده بحسب ما تقوم عليه، فحياة تقوم على الذل ليست في عرف العربي بحياة بل الموت أشرف و أكثر (حياة) وهذا يلخص قول العربي:

لا تحسبن ذهاب نفسك ميتة    ما الموت إلا أن تعيش مذللا

وبعضهم يعيد تعريف الحياة بمنحى آخر غير ثنائية الذل/العز إلى ثنائية أكثر شمولا : الرداءة/الجيد ، فالحياة الرديئة غير السالمة من الآفات و المكاره، الغارقة في المصائب و الأهوال لهي حياة يكرهها المرء ويكون الموت عليها فاضلا، فالموت يسهل على المُعذب مع مافيه من مأساوية، وهذه من فضائل الموت المعدودة: أنه سبيل خلاص محمود أحيانا من حياة رديئة وفي هذا قال ابن مسكويه :

"إن الحياة ليست بغريزة إلا إذا كانت جيدة؛ وأعني بالحياة الجيدة ما سلمت من الآفات و المكاره، وصدرت بها الأفعال التامة الجيدة، ولم يلحق الإنسان فيها ما يكرهه من الذل الشديد، و الضيم العظيم، والمصائب في الأهل و الولد، وذلك أن الإنسان لو خير بين هذه الحياة الرديئة، وبين الموت الجيد؛ أعني أن يقتل في الجهاد الذي يذب به عن حريمه، ويمتنع به عن المذلة و المكاره، لوجب في حكم العقل و الشريعة أن يختار الموت والقتل في مجاهدة من يسومه ذلك".

وبعضهم رأى في الموت سترا للمكاره و العورات و العاهات كما يقول قائلهم:" رحم الله التراب ماذا يستر من الفضائح و يغطي من القبائح".


وبعضهم حث على هذا الاسترسال و الاستذكار للموت لأنه يذيب قسوة القلوب و يرققها، ويغسل نكت السوء في القلوب، و علائق حب الدنيا وشوائب التعلق بها، ومن هؤلاء من تعمد حفر قبره والاضطجاع فيه كما ذكرنا تأديبا لنفسه وتذكيرا لها بالموقف الجليل الذي تقول فيه إن كانت من الخاسرين : "..رب ارجعون، لعلي أعمل صالحا".


وبعضهم رأى في الموت فضيلة تحقيق دولة الأيام، فبلا موت لا تداول للسلطة و الغلبة والمال بين الناس.


وبعضهم رأى في الموت دافع للإحسان في الحياة، فهذه رابعة العدوية توصي: "إنما أنت أيام معدودة، فإذا ذهب يوم ذهب بعضك، ويوشك إذا ذهب البعض أن يذهب الكل وأنت تعلم فاعمل" 

وقد بلغ ببعضهم هذا الاسترسال والاستئناس بالموت إلى حد تمني الموت، ومن الأسماء المعروفة في تمني الموت وشعر الموت أبو العلاء المعري و أبو العتاهية ، وغيرهم كثر، بل كما يقول المؤلف " إنه عزيز ألا ترى زاهدا عربيا لم يتمن الموت" ، حتى بلغ بهم الحال إلى وصف الموت بأنه (تحفة المؤمن) و (ريحانته).


وأمام هذا الموقف الذي "يسترسل مع الموت" و يشجع استحضاره بل يشجع السير له سيرا جميلا  ، نكون أمام موقف آخر جازع من الموت متهيب منه فار من التفكير فيه هارب عن هول تذكره إلى نعيم نسيانه وإلى تعمد "السلو عن الموت"  ، فهذا الفضيل بن عياض يقول" ما يسرني أن أعرف الأمر حق معرفته، إذا لطاش عقلي، ولم أنتفع بشيء" وهذا ابن الجوزي يقول: إني أكره لنفسي من جهة ضعف قلبي ورقته أن أكثر زيارة القبور، وأن أحضر المحتضرين، لأن ذلك يؤثر في فكري و يخرجني من حيز المتشاغلين بالعلم إلى مقام الفكر في الموت" . فالغفلة عن الموت نعمة، ونسيانه و السهو عنه عطية وهبة من خالق الإنسان و خالق الموت سبحانه.

الاستئناس عند عجز الإيناس

مما استعان به العرب على الاستئناس بالموت عندما عجزوا-ككل البشر- عن إيناسه، تطييب الموت في نفوسهم وذلك بتربية الإرادة على عدم الجزع من الموت، وهذا يكون بطرق شتى ملخصها:

تطبيع الموت ، أي أن الموت هو الحدث الطبيعي لإنسان موجود بين عدمين، فقد "كان الإنسان بعد أن لم يكن، وسيفنى بعد أن كان، ومن كلا طرفيه عدم فهو عدم " وهذا ملمح مهم أشار له الحكماء بأن الموت هو غاية الإنسان فهو نهايته ومصيره " من خاف الموت الطبيعي للإنسان فقد خاف ما ينبغي أن يرجوه".

حتمية الموت، فالاقتناع بأن الموت أمر حتمي يواجهه كل آدمي يخفف من وقعة هذا المصير الإنساني المشترك ، ومما يجدر بالذكر هنا، أن العرب أشاروا أن علقم الموت عند الإنسان مر لأنه واع به، ولو فقد الوعي بموته لما خافه ولا جزع منه وفي هذا يقول  سفيان الثوري:"لو أن البهائم تعقل من الموت ما تعقلون، ما أكلتم منها سمينا".

الموت تمام الإنسان،  ذهب بعضهم إلى اعتبار الموت الميزة التي تتم بها إنسانية الإنسان، فهم حين عرفوا الإنسان عرفوه بأنه "حي ناطق مائت" ، فالموت هو تمام طباع الإنسان، و "الموت ليس برديء، إنما الرديء الخوف منه".

نظرات في الموت

للعرب في الموت نظرات أولها أنهم قرنوا الموت بالألوان وألبسوه معاني مختلفة ، فوصفوا الموت بالأحمر(مخالفة النفس) و الأبيض (الموت من الجوع)، والأسود (احتمال الأذى من الخلق) وغيرها، كما أسبغوا على الموت أوصاف الحجوم ، موت أصغر للنوم، وأكبر لمعنى الموت المعروف.

وللصوفية معنى آخر في الموت، فقد فرقوا بين الموت الطبيعي و الموت المعنوي، فالموت الطبيعي هو الميتة التي تكون بانحسار الروح عن الجسد، و الموت المعنوي يكون بتعمد مخالفة النفس و انحسار الشهوات عن النفس وتجريدها عن الصفات المذمومة، فهذا "موت إرادي" محمود، إذ هو السبيل ل"موت طبيعي" محمود، وملخص الفكرة قول ابن القيم رحمه الله :"من أمات نفسه موتا إراديا كان موته الطبيعي حياة له" فالميت الحقيقي هو من قتلته نفسه وهو حي بشهواتها و صفاتها المذمومة. وهذا معنى مأخوذ في عمومه من الفلاسفة الذين قالوا:" مت بالإرادة تحيا بالطبيعة".

خاتمة

لم يقف العرب عند التأمل في مقام الموت وحده، بل إن أمة حملت لواء الإسلام لحقيقة بأن تتجاوز هذا الوقوف إلى النظر فيما وراء الموت، وإعمال معاني الحساب و الآخرة و القيامة و البعث ونحوها عند ذكر الموت وتأمله.

وإنه لحقيق لمن يقيم للموت قائمة أن يتمنى خاتمة حسنة و ميتة هينة،  فكما أن هناك حياة طيبة و صبر جميل، فثمة خاتمة حسنة وموت جميل، ولم يغفل أدب العرب وتراثهم عن هذا، فإلى جانب هذا الحرص على الموت الهين، فإن شعورا بالتوجس و الخوف و الرغبة في الرحمة و الحرص على رجائها ولو بما لا يعقل ،كان موجودا في هاجس العربي، فهذا ابن الجوزي يروي عن الزاهد عبد الله بن مسروق أنه قال لغلامه :"عند الموت احملني واطرحني على مزبلة لعلي أموت عليها ذليلا، فيرى ذلي فيرحمني"، بل إن بعضهم أوصى أن يدفن على قارعة الطريق كي يحظى بترحم المارة ودعاء العابرين متمثلا قول القائل:

بقارعة الطريق جعلت قبري       لأحظى بالترحم من صديق

فيا مولى الموالي أنت أولى    برحمة من يموت على الطريق

ورغم كل ما قد يبلغه المرء في الدنيا وما يستعد به للآخرة و ما يحمله من زاد  ليوم المعاد و ما يرتحل به وحيدا، فإني أجد في وصية جعفر بن محمد العباسي قصة كل إنسان في دنيا النقصان، فما كانت دنيا إلا لأن النهاية فيها كما أوصى العباسي أن يكتب على قبره : " حوائج لم تُقض، وآمال لم تُنل، وأنفس ماتت بحسراتها "

فاللهم حسن الختام، وطيب الحياة، و تذكرا دائما لمُر الحِمام، ورضاك الذي ليس بعده ولا قبله مبتغى ولا مرام..