مذكرات طبيب أطفال مُـقيم
الجزء الأخير
كل الأسماء الواردة في هذه التدوينة هي أسماء مستعارة
سجود في العناية
كطبيب مقيم وبعد ليلة حافلة من المناوبة و مع بزوغ الشمس في الصباح الذي يعقب تلك الليلة ، أتفاءل أنا وزملائي بنجاح عقارب الساعة في الاقتراب من الثامنة صباحا حيث تبدأ مراسم الفرح بانقضاء ليلة ننام فيها ونحن يقظين
ولكن قبل أن تأتي الثامنة !
ينام على مقربة من غرفة الطبيب المناوب ، مريض في غرفة العزل وهو الطفل حسام الذي يعاني من مرحلة متقدمة من الفشل الكلوي فما عاد لجسمه المقدرة على تصريف سوائله ، حتى احتبست السوائل في جسمه الهزيل وغدا كأنه غريق من الداخل !
ما أقسى أن تكون غريقا في أعماقك .. تموت ببطء !
وهذا ما كان يحدث لحسام … يموت في كل يوم قطعة من جسمه ولكنها لا تموت وحدها !
فوالد حسام الذي سبق عقارب الساعة قد وصل إلى العناية المركزة بعد أن اتصلنا عليه نعزيه في طفله الذي كانت آخر أنفاسه في أول أنفاس ذلك الصباح الحزين!
وصل الأب - وكأنه غريق لكن من الحزن - وقّبل جبين طفله الراحل ثم سقط - سقط ساجدا - جوار طفله يبكي ويدعي ويحتسب !
يا الله ما أعظم نعمة السجود .. في لحظة لا يمكن أن يربط على قلبك فيها أحد إلا الخالق .. سجوده كان عكس القبلة ! ولكن قلبه كان في الاتجاه الصحيح..
ثم جاءت الثامنة صباحا ومضى الجميع إلى حياتهم الدنيا ومضى حسام إلى حياته الأخرى شفيعا لوالديه إن شاء الله
مع نفسك !
رغم كل الجهود التي بذلها قسم التنويم في الجناح لعلاج الطفلة هديل
في نوبة التهاب الشعب الهوائية التي تصيب الأطفال عادة في عمر
الشهور الأولى من موسم الشتاء، وبعد منتصف الليل، قرر الفريق
المناوب أن ينقل المريضة إلى جناح العناية المركز حيث يتلقى المريض
عادة هناك ملاحظة ورعاية مركزة، وقد باءت كل محاولات إقناع الأم -أن
الطفلة تحتاج إلى جهاز تنفس عن طريق الأنف - بالفشل، وعلى مضض
أبدت الأم تعاطفها مع الفريق أن يذهبوا بابنتها إلى العناية ، وهناك
تقمصت الأم دور الطبيب وأصدرت الأوامر والنواهي..( الأنبوب ما يناسب
.. الدواء يضر الصدر.. السوائل لا تكفي .. ) فأجابوها بكل أدب بأن الذي
يقومون به هو من مصلحة الطفلة ولكنها لم تقتنع! فبدت على وجه
فريق التمريض علامات الغضب - وإذا غضب التمريض فالكل في خطر! –
وقرروا عدم الانصياع للأم وأخبروني أن أتحدث مع الأم ، أعادت علي كل
الأسئلة
فأجبتها بسؤال : أم هديل هل أنت طبيبه؟
إذا كنت كذلك فاشرحي لي وجهة نظرك ودعينا نتناقش وإن كنت لا فكيف أتحدث معك
وأنتي غير طبيبة!
فلم يعجبها الكلام – أو كذلك ظهر لي – و قالت: طيب أحتاج يجي زوجي
للعناية الآن ، فأخبرتها أن الزيارة ممنوعة حاليا ولم يتبق على السماح
لوقت الزيارة سوى ساعات – وأن هذا القرار ليس بيدي كطبيب ولكنه
بيد الإدارة – فقالت لي كلمة جعلتني أظهر غضبي على شكل ابتسامة –
وهي أقصى مراحل الغضب – ، وقد كانت كلمة صادقة في مبناها سيئة
في معناها ، قالت لي : مع نفسك !
استدرت عائدا لغرفتي مقررا في داخلي أن أفضل طريقة للتعامل مع
هؤلاء الناس أن أكون فعلا مع نفسي بعد أن أشرح للمريض ما يجب أن أقوم
به وأعطي الأوامر لقسم التمريض مطمئنا في داخلي أن المريض أخذ حقه
من الرعاية..
وعلى غرار هذا الصنف من الناس ، زارنا في الجناح مريض يعاني من
تشنجات متكررة مع حرارة مرتفعة ، وقد بدأنا الرحلة مع أم بدر أن ابنها
بحاجة لخزعة ظهر ، فرفضت ، فقلنا لعلها تستشير زوجها ،
فرفض ، فقلنا لهم أننا بحاجة لإجراء أشعة رنين للدماغ زيادة في
الاطمئنان واستبعادا لأسباب أخرى للتشنج ، فرفض الاثنان
معا ، وهنا شرحنا لهم أن فترة العلاج في حال رفضهم ستستمر
واحدا وعشرون يوما ، فرفضت كل العائلة !
وكنت حينها في عامي الأخير في مرحلة التدريب – ويعي كل من يقرأ هذه
الحروف من الأطباء ما تعنيه السنة الأخيرة في مرحلة الإقامة – فلا وقت
لدي لأن أقابل كل هذا الرفض بصدر واسع ونفس تواقه لإعادة الشرح
مرات عديدة
فقد استهلكت سنوات التدريب التي
سبقتها كل مشاعر العطف والرقة والحنان
وبعد أن استنفد الفريق الطبي كل المحاولات للإقناع ، مضينا على خيارنا
الأخير وقررنا أن نكمل 21 يوما من العلاج ، وسعينا في
ترتيب موعد لأشعة الرنين المغناطيسي بعد أن أظهرت أم بدر بوادر
موافقة على اجرائها ، ولم يكن الأمر سهلا أن تلقى موافقة من
أطباء الأشعة لأنهم - أو قليل منهم -مشغولون دائما
وأبدا ومواعيدهم ممتلئة وكل حالاتهم حرجة يعيشون
في ظلام دامس إلا من ضوء خافت يزعجهم كثرة
الاتصالات والاستشارات لا يبدون الموافقة إلا وقد
صبوا جام غضبهم عليك ،
فتأخذ أنت هذا الجام الغاضب وتذهب به إلى أم بدر التي قررت
التراجع عن الموافقة ! ، ويأتني اتصال من والد بدر يطلب الخروج من
المستشفى فقلت له لا يمكنني الموافقة على طلبك إلا
في حالة واحده وهي أن تخرج من المستشفى تحت مسؤوليتك وهذا
الشيء لا يرضيني وأن ابنك بدر أمانة في عنقك ، فقال لا بأس أنا في
الطريق للتوقيع!
فأعددت أوراق الخروج ولكنه حينما وصل للمستشفى
قال لي خلاص بنخليه! فكانت إجابتي هي الصمت
وفي كل صباح لزيارة المريض بدر ، تسألني الأم قلقة عن حال ابنها
فأجيب على قدر السؤال ولا أبدي أي مظهر من مظاهر التفاؤل المفرط
أو التشاؤم المحبط ، وبعد أسبوع تسألني
يا دكتور: شرايك تسوي خزعة ظهر الان ؟
نقدر نرتب موعد جديد لأشعة رنين؟
وكنت أؤمل أن أم بدر كانت تخمن موقفي الذي سيجيب بالرفض طبعا فكل المضادات الحيوية ومضادات الفيروسات بدأت بالفعل منذ أسبوع ، وطبيب الأشعة بالتأكيد سيكون مستعدا للمزيد من الغضب
ولذلك قلت لها لا يمكننا للأسف .. فأبدت استغرابا لموقفي
الرافض !
وحين دخل زملائي على أم بدر في أحد الأيام قالت لهم – وهي تقصدني -
: هذا الدكتور شفيه كذا ؟؟
وحين أخبرني زملائي بالخبر، انخرطت في نوبة ضحك! نعم فلم يكن لدي
أي استعداد لأغضب مرة أخرى
مضت الأيام ..
خرجت هديل بالسلامة ، وخرج بدر وأمه بالسلامة . وحين تعود الذكرى
لتلك الأيام ، أدعو الله أن يمن عليهم بالشفاء وأن لا يبتليهم مرة أخرى
وأن يغفر لنا ويسامحنا ويتجاوز عن تقصيرنا
فمهما تجاوزت الأم حدود الكلام المهذب
فهي ليست إلا حنانا وخوفا على ابنها ومهما
ظهر الطبيب بأسلوب حازم فليس إلا حرصا
وشفقة على المريض
دموع
على مقربة من ممر العناية ، يخبرنا الطبيب بعد أن أغلق خلفه
باب غرفة الاجتماعات ، أن القرار قد صدر بنقل أحد المرضى من
عناية الأطفال إلى أحد أجنحة العنايات الأخرى بالمستشفى ،
لأن برد الشتاء القارس قد تسبب في ارتفاع حاد في عدد
المرضى المنومين في العناية , وقد وقع الاختيار على بدور
التي تعاني ضعفا في أجزاء الجهاز العضلي الطرفي فلا تستطيع
أن تمشي لكنها تدرك
تقوم إسراء وهي ممرضة في جناح العناية ككل الممرضات
الأخريات بالاعتناء بمريضتها والاهتمام بها حتى كأنها تبدو
كأنها ابنتها– وهي في الحقيقة كذلك - فما إن يصل إليها خبر
نقل بدور إلى جناح آخر حتى تستعد بإعداد كل مستلزمات بدور
الطبية وملفها الغارق بتوصيات وأوامر الأطباء وفي منتصف
الطريق بينما يتقدم السرير الذي يحمل الطفلة إلى الجناح
الآخر ..تبدو إسراء متأخرة عن بقية الفريق متظاهرة أنها
تتفقد شيئا في معطفها .. ولكن الأمر لم يكن كذلك .. لقد
كانت تبكي !
نعم إن انتقال بدور إلى جناح آخر يعني انتقال الرعاية اليومية
من يد إسراء إلى يد ممرضة أخرى ولا أدل على ذلك من أن
الطبيب أو الممرض يبقى المريض في ذاكرته ووجدانه ، فكيف
بمريضة صغيرة كالوردة الذابلة أمضت معظم حياتها في عناية
الأطفال ..
ولو أن إسراء ادّعت بالكلام فقط أنها متعلقة بطفلتها بدور ..
ولكنها حين غادرتها بكتها بدموعها وليس هناك أصدق من
لغة الدموع!
آلام متكررة
ككل الناس ، تستعد عائلة المولود ياسر باستقباله في أحسن
حال وأبهى لباس ، ياسر ليس المولود الأول بالطبع فقد
سبقه خالد ولكن- إلى الجنة إن شاء الله- فقد أصيب خالد
بمرض وراثي أدى إلى اختلال في وظائف الدماغ ولم تدم فرحة
الأبوين كثير ولكن الله أراد أن يرزقهم بياسر خلفا لأخيه في
الدنيا وربما خلفا لأخيه في الآخرة ! نعم فياسر لم يكمل
ساعات يومه الأولى من الحياة حتى بدت عليه أمارات التعب
فزادت سرعة نفسه وفقد قدرته على تقبل الشرب وبلغ
مرحلة من مراحل الجفاف التي لا تعود بعدها الأعضاء إلى
عافيتها إلى أن توفاه أرحم الراحمين
هي ليست المرة الأولى لي وللطبيب المسؤول معي أن
نواسي أهل مريض بفقد ابنهم ولكن أبا خالد وياسر – رحمهم
الله- جاءنا باكيا لا يستطيع القدرة على الكلام وغاضبا لا
يعرف ماذا يقول.. إنه في المصيبة التي نتمنى أن يثبتنا الله
عندما نصاب بها !
أدخلناه إلى احد الغرف المجاورة وساعدناه في الجلوس لكنه
لم يستطع فارتما أرضا وأخذ يبكي كالطفل ..
الأب حينما يبكي صغاره ..
دموعه صادقه .. لأنه لا يطمع في إرث.. إنه يبكي
جزءا من جسده وروحه .. وكل طفل أمامه سيذكره بصغاره
الذين ودعوا هذه الدنيا مبكرا ..
شكرا
على مسافة قريبة من غرفة الإنعاش ، في ليلة من ليالي
المناوبات ، يقف رجل بجانب بابها الذي يطل على ممر الطوارئ
ويشير إلي بيده طالبا مني الحديث على انفراد ، وحين عرفت
من ملامح وجهه عرفت أنه أبو محمد ، أعادت الأذهان ذكرى
صباح إحدى نهايات الأسبوع بعد أن أعلن فريق الاستجابة
السريعة لحالات توقف القلب والتنفس – وكنت من ضمن
الفريق - عن وفاة محمد وهو من الأطفال من ذوي
الاحتياجات الخاصة – رحمه الله - وسبق أن تطلب وضعه
الصحي تنويما متكررا في الجناح ، لم يفصل بين لقائي بين والد
محمد ووفاة ابنه سوى أسبوعين – يصعب – أن تكون صورته
غائبة عنا نحن الاثنين ، ولكن ! ما أبعد الفرق أن يفارقك
ابنك بعد أربعة عشر عاما قضيتها معه وأن تفارقك روح
إنسان حاولت إنعاشها قبل أربعة عشر يوما !
دارت في ذهني تكهنات سريعة كالبرق .. ماذا يريد أبو محمد
في هذه اللحظة ؟
(ربما لو أطلتم مدة الإنعاش لما غادرتنا روح محمد.. لماذا آتي
بمحمد للمستشفى وتكون زيارته الأخيرة تلك التي غادرت فيها
روحه .. لماذا ولماذا )
حاولت أن أستبق الحديث معزيا ومدركا أن صورتي كطبيب
شاهد على نهاية ابنه في الدنيا ستثير في نفسه مشاعر الحزن
وربما مشاعر الكره ولكن الذي أذهلني أن أبا محمد شد على
يدي وقال كلمات كانت كالماء البارد على القلب : جزاكم الله خير
.. ما قصرتوا .. تعتبوا معاه .. اجتهدتوا .. جزاكم الله خير .. أنا
يا دكتور ناديتك عشان أشكركم على كل اللي قدمتوه !..فقت
له جملة واحدة كررتها مرتين : يا أبو محمد هذا واجبنا وليس
فضل نمتن به .. وأجركم وصبركم عند الله لن يضيع وكان
حديثه لا يدل إلا على صورة واحدة.. وهي الوفاء!
صورة هذا الوداع الحزين تقابلها صورة استقبال فاتنه من
قِبل أب يمشي بخطوات متلهفة لرؤية مولوده الأول وهو
شعور فطري إنساني ولكن الذي زاد هذا الشعور جمالا منظر
عينيه الغزيرتان بالدموع تحتضنهما ابتسامة عريضة ومصادفة
كنت أسير إلى جانب ممر قسم الولادة وذهني مشغول بأمر
آخر ، التفت علي الأب وهذه المرة سبقني وبادرني بالحديث
وقال : دكتور الحمد لله الحمد لله ربي رزقني ولد بعد عشر
سنوات .. فكانت عبراته تسبق عباراته ..