بسم الله الرحمن الرحيم
مذكرات من غرفة الطوارئ (1)
حكايا متنوعة من رحلة الإبتعاث في تخصص طب طوارئ الأطفال بكندا
هذه الحكايات آثرت أن أكتبها بين الحين والآخر أولا بأول قبل أن تتشابه الأيام على ذاكرتي ، وهي التقاطة لِلِّحظة الحاضرة فكل شيء هنا جديد وكل جديد يخلق في النفس دهشة وكل دهشة لا تخلوا من وصف الصورة أكبر مما هي عليها في الواقع.
على خلاف مجرد السرد السابق خلال تدوين رحلة التعلم أثناء مرحلة البكالوريوس ومرحلة التدريب السريري في التخصص العام (البورد) في المملكة ، يأتي سياق تدوين هذه المذكرات في بداية مرحلة مفصلية للمسار المهني والإجتماعي. فاليوم رغم أني أخطوا في عمر الثلاثين وأخطوا نحو تخصص طبي دقيق إلا أن خطوة واحدة قدرها الله لي أن أخطوها في - دولة أخرى وعالم مختلف اتجهت إليه من الشرق إلى الغرب - سببا لأن أعيد النظر إلى البوصلة وأرتدي لكل الفصول الأربعة ما يناسبها وأرد بإيماءة مفادها الرفض أو الجهل لكل من يسألني هل رأيت ثلجا يتساقط من قبل؟هل تعرف أفضل طريق يؤدي إلى تورنتو؟كم الرمز البريدي للمنزل؟في أي يوم يجب أن تخرج كومة القمامة خارج المنزل؟هل تعرف أن الإتجاهات في الإشارة تفتح لكلا المسارين المتقابلين والاتجاه نحو اليسار في آن واحد؟ لحظة هل تعرف أين توجد صيدلية المستشفى؟
التواصل
كانت الأيام الأولى تستوجب التعريف بنفسي للآخرين مئة مرة في اليوم وهنا - وكل هنا في هذه المذكرات تعني شمال القارة الأمريكية - يسألونك كيف تريد أن ننطق الإسم؟ هل الأول أو الأخير وهل هناك اختصار للأسم ؟أيضا كطبيب حرف الدال يسبق غالبا اسم العائلة وليس الإسم الأول.
بعض الأسماء حروفها تكتب ولا تنطق ومرة من المرات اتصلت بطبيب الأعصاب المناوب واتفقنا أن يعطى المريض موعدا مع الاستشاري الفلاني ، وقد تكوَّن اسم هذا الاستشاري من سطر كامل لم يستطع معه الطبيب المناوب الكندي أن ينطقه لي بل هجّاني إياه حرفا حرفا.
أجبرتني الأيام الأولى أن أكثر من التواصل الجسدي أكثر من اللفظي فابتسامة مع كلمة شكر كانت كافية لأن يدرك المريض أن وقت علاجه انتهى وللممرضة أن وصفة الدواء قد كتبت.
كان من عادتي أن أعيد كل جواب أو سؤال يوجه لي للتأكد من صحته -يتأكد هذا الأسلوب في بعض الحالات الطبية الحرجة للتأكد من سلامة الإاجراء- وفي الحقيقة كانت حالتي الوجودية حرجة في أول الأيام!
وفي كل مرة سلمت الجرة إلا المرة التي جاءت فيها عجوز من أصول صينية تتحفظ كثيرا على نطق الحروف بشكلها الكامل .. وكانت الشكوى المرضية حول بطء زيادة وزن وليدها الخديج الذي يبدو -في صحة جيدة– ولا يحتاج إلى فيتامينات بالقدر الذي تحتاج الأم إليه لنطق الحروف .... كانت تقول أن لديها ( سوقا (SOGA= وتخشى أن السوقا أثر على نمو طفلها وقد أحسنت الظن كثيرا حين خمنت أنها تقصد حالة ال SGA وهي إشارة على المولود الذي يزن أقل من الطبيعي في عمر أقارنه وأكبرت فيها كثيرا أنها واسعة الاطلاع .. ولكنني فوجئت بأن الـ(سوقا) كما تنطقه أنت الان بين نفسك وأنت تقرأ هو ( الشوقر = Sugar) وهو أنها مصابة بداء ارتفاع سكر الحمل!
هذا الحادث اللغوي أثار اهتمامي وأعاد النظر ليس في كمية المفرادت اللتي أعرفها بل حتى بالمرادفات التي يتحدثون بها. التنوع الكبير من السكان في كندا خلق مزيجا من اللهجات واللغات وأصبح كل مستشفى يوظف مترجمين للمرضى الذين يتحدثون بغير الإنجليزية.
التواصل الجسدي الذي يعبّر عن التقدير يتجاوز الابتسامة والتحية إلى صور أخرى كالحضور المبكر والرد على رسائل الايميل أو درزن دونات من تيم هورتنز في أول يوم عمل.