الصدمات المدفونة
أعتقد أن الأغلبية حدثت لهم مواقف أثناء طفولتهم أو حتى في فترة المراهقة وما زال أثرها للآن باقٍ، ولكن هل الجميع يدرك أنها سبب بعض تصرفاتهم الغير مبررة؟
أدركت ذلك مصادفةً أثناء تفكير مطوّل بسائر أمور حياتي وفجأة شد انتباهي أن جميع تصرفاتي (لأمر معيّن) كان سببها مجموعة صدمات سابقة حدثت من قبل 10 سنوات! الأمر غريب بعض الشيء لكن هذا الواقع يحدث تصرف بسيط -من وجهة نظر فاعله- وأثره يمتد سنوات على المتلقّي دون علمه.
فلنتحدث أولاً عن الصدمات المدفونة: ما هي؟ وما سببها؟ وما الأثر الناتج عنها؟
ما هي؟
باختصار هي مواقف حدثت لنا سابقاً وأحدثت تأثير قوي على الشخص مما أدى لصدمة نفسية، وأحياناً بسبب عدم المقدرة على التعبير بالشكل المناسب قد يصبح أثرها أسوأ، وقد تمتد هذه المواقف خلال مرحلة عمرية كاملة مما يرسّخ أثرها ويُنتج عنها تصرفات غير مفهومة، أو بغير إرادة الشخص.
ما سببها؟
-إن حدثت في مرحلة الطفولة فغالباً سببها الأهل وبيئة المنزل بشكلٍ عام، لأن الطفل في سنواته الأولى (قبل المدرسة) لا توجد لديه إلا بيئة واحدة ولا يختلط إلا بأفراد عائلته لذا يكون تأثيرهم دائماً أقوى.
-أما إن حدثت في مرحلة المراهقة قد يكون لها سببان: الأول كما ذكرت سابقاً الأهل، والثاني بالطبع بيئة المدرسة، فالمدرسة تعد من أكثر الأشياء التي تسبّب أثر قوي ومستمر على الفرد، فإما تقدّم له تجربة ممتعة ومفيدة أو للأسف تجربة سيئة.
ما أثرها؟
ما إن تُدفن بداخلنا ستسبّب ردّة فعل غير متوقعة اتجاه أمور قد تكون عاديّة عند البعض، وقد نرى أننا نستاء من مزحات خفيفة، كلام بسيط، نقد اتجاه تصرفاتنا، وللأسف قد ينتُج عنها مشاكل نفسية ونوبات تحدث بشكل مُفاجئ، بالإضافة إلى تصرفات عدوانية، أو كره للناس بدون سبب واضح، وقد تجعل الشخص انطوائي ويشعر بالخواء والفراغ بحياته.
ومن الجدير بالذكر أن صدمات الطفولة والتي تكون من جانب الأهل سيكون لها التأثير الأكبر والذي يمتد إلى مراحل أخرى -ومن مر بمثل هذه التجربة- يعرف المعنى من كلامي..
بعد أن تحدثت عنها بشكل بسيط أود التعمّق بالموضوع أكثر وشرح تجربتي، ومن المؤّكد هناك الكثير مرّوا بتجربة مماثلة (قد يكون التحدث أو القراءة عن تجربتهم مفيد ويخفّف قليلاً من وقع الشعور؛ لذا تكلمت عنه)
لأكون صريحة مررت بكلتا التجربتين (صدمات الطفولة، والمراهقة) وحينها لم أكن أعبّر بشكل جيد أو بالأحرى كنت أعتقد أن المساعدة تأتي من الخارج وليس منّي، وهذا يعني:
كنت أشارك شعوري لكن دون فهمه اعتقاداً منّي أنًّ شخص ما سيساعدني -وهذه فكرة خاطئة لحدٍ ما-
لم أكن أدرك حينها أن علي فهم ذاتي ومشاعري وصدماتي، كنت أظن أن التحدّث والكتابة هما الحل، وأخذ الأمر منّي -5 سنوات- حتى توصلت للحل، وقبل هذه السنوات لم أكن أدرك أي شيء وكان لعدم إدراكي جانب إيجابي وآخر سلبي.. على كلٍ المهم أنّي توصلت لما أريد.
بدايةً مُذ كنت بالابتدائي حتى المتوسط مررت بالعديد من التجارب والتقلبات المزاجية والنفسية دون فهمها، لاحظت استيائي من الأمور العادية والمواقف البسيطة واعتقدت أنها طبيعتي وشخصيتي ليس إلّا، كنت أقول أنني حسّاسة فقط ولا يوجد شيء آخر حتى أدركت في أحد السنوات أن كل هذا نِتاج مواقف سابقة سببت لي صدمات مدفونة.
وإدراكي لهذه النقطة سبّب لي دوامات تفكير ومشاكل نفسية أخرى أعمق من السابق، ولا أقول هذا لإحباطكم لكن الصراحة جزء من الحل حتى أنها أساسه، وأود أيضاً نقل تجربتي كما هي حتى يعرف كل شخص مر بما مررت به أن هذه المرحلة لا بد منها.
هل كانت لحظة الإدراك بسيطة؟ أو تخطيتها بسهولة؟ صراحةً لا.
وهذا ما أود إيصاله إليكم لن يكون الأمر سهل لكنه بالطبع لن يكون مستحيلاً تخطّيه..
*النقطة الأهم: كيف توصلت للحل؟
أولاً كما قلت سابقاً الصراحة هي الأهم، لماذا؟ لأن الأمر يستدعي أن تكون صريح مع ذاتك قبل الجميع، أن تتذكّر كل موقف سابق، وتعرف جميع جوانب شخصيتك، نقاط القوة والضعف، عيوبك ومزاياك.
وما الفائدة من ذلك؟ بكل بساطة حتى تعرف كيف تبدأ رحلة تعافيك وبدايتها تكون بإدراك الصدمات ذاتها ومسبباتها وأثرها؛ عندما تعرف ذلك ستدرك سبب تصرفاتك التي كانت في السابق غير مبررة، ستتوقف عن لوم نفسك وتصبح أكثر تفهّم للموقف ولردة فعلك.
من المهم طبعاً أن تأخذ وقتاً طويل مع ذاتك فقط دون تدخل أي شخص (لا أحد يعرفك جيداً سواك) وهذا لا يعني عدم طلب المساعدة إن احتجت، بل المقصد عدم إبداء الآراء اتجاه شخصيتك وتصرفاتك؛ لأنها ستشتتك وتشكك بذاتك.
بعد ذلك قسّم كل شيء ولا تبدأ بحلها جميعها حتى لا تشعر بأن الأمر صعب ومستحيل، رتّبها بالأصغر فالأكبر.. أبدأ بالصدمات ذات التأثير الأقل ثم أكملها حتى تصل للأخيرة.
من الضروري في هذه المرحلة أن تفهم نفسك وتعطيها الوقت الكافي للتخلّص من جميع المشاعر السيئة فهي نِتاج سنوات من الطبيعي أن تحتاج الوقت، وعليك أن تتقبّل جميع المشاعر السابقة والحالية (المُصاحبة للتعافي) فعدم تقبلك سيزيد الأمر سوء وصعوبة لذا كرر محاولاتك في أوقات مختلفة ولا تضغط على نفسك أبداً، حاول حتى تتقبّل وتدخل في صلب الموضوع، وفي كل مرة تعتقد أن التخطّي مستحيل تذكّر أنك تستحق الأفضل.
عند البدء في ذلك دوّن أي تصرف غريب تلاحظه في نفسك حتى لو كان بسيط، وإن لاحظت انزعاجك من مواقف عاديّة فهذا أيضاً يدل على صدمة أو موقف سابق أثّر فيك.. عندها حاول معرفة ما السبب بالضبط (أي موقف كان السبب) وسيساعدك ذلك في اختيار الطريقة الأنسب لحل المشكلة.
فإن كان بسبب تعليقات سيئة تلقيتها وأنت صغير فذكّر نفسك بأن تفكير الأشخاص مختلف فإن تلقيت تعليق من شخص لا يعني أنه سيتكرر، وبالأصل هذه التعليقات لم تكن بمحلّها وغير صحيحة إنما كانت بسبب اختلاف في الشخصيات أو سوء المعاملة، وقد تنتج من مشاكل نفسية للشخص ذاته (من قال التعليقات).
وإن كان بسبب تصرفات تلقيتها حاول تغيير نظرتك اتجاهها، بمعنى: لا تنظر إليها بعد الآن على أنها تصرف مسيء بل على أنها تعطيك قوة، فهذه الأشياء كانت سبب في زيادة فهمك لوضعك الحالي، حتى من الممكن أنك أصبحت أكثر خبرة بتصرفات الآخرين بعد ما واجهته (تغيير نظرتك اتجاه المواقف أحد أهم أسباب التغيير).
وإن كانت بسبب الخيبات والخذلان من علاقات سابقة كالأصدقاء مثلاً، فتذّكر أن مرور الأشخاص بحياتك هو درس لك إما تتعلم من تصرفاتهم الجيدة، أو تزيد معرفتك بالأشخاص بسبب تصرفاتهم السيئة، وبعد ذلك ستصبح أكثر ذكاء وحكمة في تعاملك مع الآخرين (ولا تدع تجاربك السيئة تؤثر عليك وتبعدك عن الناس).
أنا مثلاً بعد عدّة تجارب فاشلة ابتعدت عن الجميع اعتقاداً منّي أنهم سيفعلون نفس الشيء معي، والنتيجة أنني أصبحت شخص انطوائي يكره الناس دون سبب واضح (وهذا تصرف خاطئ).
بعد ملاحظة تصرفي حاولت فهم ذاتي أكثر ومعرفة ما السبب وبعد اكتشافه ذكّرت نفسي أن الاختلاف أساس الأشخاص فلو تعرضت لمواقف سيئة من مجموعة فهذا لا يعني أن الجميع مثلهم، استفدت من تجربتي واكتسبت ذكاء اجتماعي بعد ما مررت به، وأعطيت نفسي فرصة وكذلك من حولي.. والآن أنا ممتنة لما فعلته فقد أصبحت أكثر تقبّل لوجود الأشخاص، وشعرت أنني استعدت جزء من شخصيتي السابقة وسعيدة بذلك.
تحليلك لكل موقف أمر مُتعب لكن تذكّر النتيجة بعد كل هذه المعاناة فأنت تعمل من أجل نفسك حتى تصل للشخصية التي تريدها، حتى تكون بالشكل المناسب لك، حتى تقول لنفسك بأحد الأيام أخيراً وصلت لما أردته وأصبحت كما أريد -من تجربة الشعور لا يمكن وصفه- ستكون فخور وسعيد بنفسك.
كن على ثقة بنفسك وبقدراتك، ذكّر نفسك دائماً بأهمية تخطّي ذلك، لا يمكنك أن تستمر بالمضي قدماً وأنت تحمل أعباء الماضي فهذا سيثقلك ويتعبك، تعلّم أن تترك كل شيء غير مفيد لك في حاضرك ومستقبلك واعمل من أجلك، لا أود التحدث وكأن الأمر بسيط ويمكن فعله بسهولة لكن حقاً أود تذكيركم بأن كل الأشياء في الحياة صعبة، لا يمكنك الحصول على ما تود بغمضة عين! هذه طبيعة الحياة ويجب على الإنسان أن يتقبّلها ويصبح أكثر مرونة مع الظروف من أجله وليس للآخرين، في البداية ستشعر بصعوبة وحتى من الممكن أنك لن تتقبّل وتقول لما علي فعل ذلك؟ ومع مرور الأيام ستعرف أهميته، ستدرك أن هذا الأفضل لك ولصحتك النفسية (وأعني تقبّل واقع صدماتك).
يمكنك الاستعانة بطبيب نفسي ولا عيب في ذلك مهما قال الناس لا تُلقي لهم بالاً، ويمكنك أن تتحدث مع أي شخص قريب بإمكانه مساعدتك (لكن تذكّر أن تبدأ بنفسك أولاً) لا تعتمد بشكل كلّي على الأشخاص، وبحال تفضيلك للقراءة فهناك العديد من الكتب المفيدة، أو استمع للبودكاست، مقاطع الفيديو، أي وسيلة تفضلها بإمكانها المساعدة في رحلة تعافيك (فقط اختَر المناسب)
قبل كل خطوة وكّل أمرك لله واستعن به
(من سلّم أمره لله ما خاب ولا حزن)
_lq998