بنيان غير مرصوص
تنطلق أمنياتنا بالحياة، وتزدهر، وتمتلئ عندما نثق؛ ثقة المدير بموظفيه من حوله إذ يأتمنهم على أعماله ولا يخشى ضياع كيانه عند غيابه، ثقة الأم بولدها إذا خرج من بيته برحلة تخييم شتوية مع رفاقه المراهقين، ثقتنا نحن بأصدقائنا عندما تنتابنا الحيرة وتبدد أحلامنا الهزيمة وتكثر أمامنا الخيارات الصعبة.. ونطلب النصح والمشورة والتعاطف والصدق بالكلمة. أيضًا، ثقتنا بأن هناك من يهتم لأمرنا ويقلق؛ ينتظر رسائلنا بشوق حار بعد أن أخذتنا منه مشقة العمل وأبعدتنا، يمنحنا سمعه وبصره وقلبه ويتجاهل كل مشتت يشغله عن حديث تافه في جلسة شاي أو قهوة تجمعنا، يتفاعل مع مسراتنا الصغيرة، ويعطينا العزاء الدافئ في خيباتنا المستمرة، ونقبض على يده دون قلق سقوطٍ أو رحيلٍ مفاجئ بعد زلّة أو عرقلة أو جدال لم نتفق بشأنه. نثق بأن الأيام لا تهدد علاقاتنا الراسخة، ولا تخدش ذكرياتنا المفعمة، وتأبى أن تجرؤ على خلق رمادية وسطحية ونظرة مصلحة وابتسامات كاذبة. عندما نثق، نحن نتجاوز كلمات السفهاء الحاقدة، والرفض غير المبرر، والاستنساخ المبتذل باسم الولاء للكيانات التي لا تنتمي إلينا، ونرفض قول الكذب، ودخول جحر الضب طواعية، وأن نصبح نكرات لا نكمل الدائرة ولا نملأ الحلقات المفرغة.. على الهامش يسهل استبدالنا وتصعب علينا المواجهة.
سألني صديق: “كيف تبدو الحياة، إن كنّا أطفالًا، ولا نمتلك من نثق به ونُحبّه؟” وكما هي التدوينات السابقة، قوامها تساؤلات وسعي بالكتابة عن إجابات وأفكار مبعثرة. على وجه العموم، دافع الحياة بأكملها أن نبحث عن إجابة لنسأل مرة وأكثر من مرة.
فكرت مليًا وتخاطر على خلَدي القصص السينمائية والروائية التي نشأ أبطالها في مجتمعات دور الرعاية، أو ربما في عائلات أكثر فظاظة وشناعة؛ خالية من الرحمة ومستترة بالقسوة والغلظة وانعدام الأمان والثقة. آن في مسلسل Anne with an e وپاتريك في Patrick Melrose وسامانثا في Suits وتطول القائمة وتكبر مأساتها عند قصص الذين عرفناهم وعايشناهم في معترك الحياة وبيئات المدرسة والجامعة والعمل. عندما تُتنزع الثقة، عند الطفل، نجد أن مذاق البراءة وطعم الفرح وهمومه الوردية التي يتشاطرها الأطفال من حوله، قد تمزقت ونُزعت وبات هذا الوديع رجلًا متقلب الأطوار منعدم الأمان أُولى توقعاته الريبة، وآخرها الشك وما بينهما خوف من الغدر والخيانة. هكذا نشأ وأملأت عليه الحياة قواعدها اللعينة. بينما ينتظر الآباء أطفالهم عند بوابة المدرسة، تنتظره هو ألفاظهم الساخرة وعباراتهم الجارحة. وبينما يحظى أولئك بأحضان أمهاتهم العطوفة المترقبة وكلماتهم الآمنة، يلقى الصغير ضربات غادرة وعقابات مستمرة وذنبه إرادته أن يكون مثلهم.. طفل يحظى بالأمان والثقة والرعاية.
يكبر هذا الطفل، وتكبر معه الضغينة والحقد الدفين. تكبر معه أوجاعه وتقاسيم وجه الهزيلة الشاحبة، ويصغر كل أمل بمن يأتمنه، ويتراءى له بأن هذه سنة الحياة وهكذا أرادت له أن يكون: إنسان لا يستحق الثقة.
يعظم حجم المشكلة، عندما نعلم يقينًا أن الماضي راسخ. والبناء بأساسٍ وضيع يصعب ترميمه. و“الذاكرة وعاء مثقوب على القلب، كلما نزفت غرق القلب”.. وأحمل أنا بداخلي كل تلك الأسئلة: كيف يعزّ عليهم، الآباء والمعلمين وكل من كان تحت عينه طفل وديع يحمل عنوان البراءة.. أن يهدموا ثقته قبل أن تُبنى، وينزعوا من قلبه الأمان قبل أن يرسخ، ويقتلوا حب الحياة بداخله قبل أن يحيا؟
لا إجابة.
اضغط هنا للوصول لمصدر صورة التدوينة